يعد الوعي من المفاهيم الفلسفية والاجتماعية الأساسية التي تشكل طريقة فهم الأفراد والمجتمعات للعالم من حولهم. ويمكن تصنيف الوعي إلى نوعين رئيسيين: الوعي المؤقت والوعي الدائم، ولكل منهما تأثيره العميق في صناعة التغيير سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. ان الوعي المؤقت هو ذلك الإدراك اللحظي الذي ينشأ نتيجة موقف معين أو تجربة صادمة تكشف للفرد جزءًا من الحقيقة، لكنه سرعان ما يزول مع زوال الحدث. هذا النوع من الوعي قد يثير التساؤلات، لكنه لا يترجم بالضرورة إلى أفعال مؤثرة أو تغييرات مستدامة. أما الوعي الدائم، فهو ذلك الفهم العميق والمستمر للواقع، والذي يقود إلى اتخاذ مواقف واعية وسلوكيات تهدف إلى التغيير الحقيقي. فالوعي الدائم لا يتأثر بلحظة واحدة، بل يتراكم من خلال المعرفة، التجارب، والنقد المستمر للواقع. و في الأدب والمسرح، يلعب هذان النوعان من الوعي دورًا جوهريًا في تشكيل الشخصيات، تطوير الحبكات، والتأثير على الجمهور. فالأعمال الأدبية غالبًا ما تسلط الضوء على شخصيات تعيش حالة من الوعي المؤقت، ثم تمر بتجربة تؤدي إلى تحولها إلى وعي دائم، مما يجعل القارئ أو المشاهد يختبر رحلة مماثلة من الإدراك والتفكير النقدي. في المسرح، وبالأخص في المسرح الملحمي لبريخت، يتم توظيف تقنيات معينة مثل كسر الجدار الرابع، والتغريب، والمونولوجات الداخلية، لدفع الجمهور إلى تجاوز الوعي المؤقت نحو إدراك أعمق للواقع الاجتماعي والسياسي، بهدف تحفيزهم على التغيير. و من هذا المنطلق، يصبح الوعي – سواء كان مؤقتًا أو دائمًا – أداة مركزية في الفنون الأدبية والمسرحية، حيث يستخدمه الكتّاب والمخرجون ليس فقط لتطوير الشخصيات والأحداث، بل أيضًا لإحداث تأثير فكري على المتلقي، وجعله شريكًا في عملية التفكير النقدي وصناعة التغيير. تتناول هذه الدراسة مفهوم الوعي المؤقت والوعي الدائم في سياق التغيير الاجتماعي كما تقدمه مسرحية “الكرسي ” لعمار سيف، وذلك من خلال تحليلها وفق منهج المسرح الملحمي لبرتولت بريخت. يهدف المسرح الملحمي إلى تنوير الجمهور، ودفعه إلى التفكير النقدي بدلاً من الانغماس العاطفي، وهو ما يتماشى مع البنية الرمزية لمسرحية “الكرسي ” التي تعتمد على إيقاظ الوعي لدى الشخصيات والجمهور على حد سواء. لذا سيم تناول الفرق بين الوعي المؤقت—الذي يتولد في لحظة انكشاف الحقيقة لكنه سرعان ما يتلاشى—والوعي الدائم—الذي يقود إلى التغيير الحقيقي والمستمر. سيتم مناقشة كيف تعكس شخصيات المسرحية هذا الصراع، وكيف تستخدم تقنيات بريخت المسرحية لإشراك الجمهور في هذه الجدلية.
يرتكز المسرح الملحمي عند بريخت على إحداث التغريب (Verfremdungseffekt)، أي جعل المشاهد يدرك أن ما يراه ليس واقعًا بقدر ما هو محاكاة نقدية له، مما يجعله في حالة تفكير وتحليل بدلاً من التماهي العاطفي مع الشخصيات. وهذا ما نراه في مسرحية “الكرسي ” من خلال كسر الجدار الرابع حيث يتفاعل الممثلون مع الجمهور مباشرة. بالضافة الى التكرار الدائري الذي يعكس استمرارية المشاكل الاجتماعية دون حلول. كما ان الشخصيات الرمزية التي تمثل أفكارًا وتناقضات داخل المجتمع تقوم بدور فعال ايضا.
في مشاهد متعددة من المسرحية، نجد أن الشخصيات تختبر لحظات إدراك مفاجئ للحقيقة، لكنها لا تدوم طويلًا، مما يجعل وعيها مؤقتًا وغير فعال. من الأمثلة على ذلك الموظف الحكومي الذي يدرك خلال المسرحية أنه جزء من نظام بيروقراطي فاسد، لكنه يعود إلى موقعه في النهاية، مستسلمًا لعجزه عن التغيير. والشاب المثقف يعي أن المعرفة لم تعد سلاحًا حقيقيًا في عصر الهيمنة الإعلامية، لكنه يظل في دائرة التنظير دون فعل ملموس. اما بالنسبة للناشط الثائر فيصل إلى مرحلة الغضب الشديد ضد الظلم، لكنه يكتشف أن الجمهور غير مستعد لمساندته، فينتهي به الأمر معزولًا. ان هذه الشخصيات تعكس الوعي المؤقت الذي سرعان ما يخفت أمام قوى أكبر منه، مما يؤدي إلى استمرار الواقع كما هو.
على النقيض من الشخصيات التي تعيش وعيًا مؤقتًا، هناك شخصيات تمتلك إرادة الوعي الدائم، مثل صاحب الكرسي بدوره الذي يشبه دور الحكيم أو الفيلسوف، فهو يدعو الناس إلى الجلوس على الكرسي الذي يكشف حقيقتهم، لكنه يدرك أن الوعي لا يكون ذا قيمة ما لم يتحول إلى فعل حقيقي. و المهرج الذي بالرغم من كونه شخصية ساخرة، إلا أنه يمثل الوعي القلق المستمر الذي لا يهدأ، حيث يعري تناقضات المجتمع دون توقف. و اما الجمهور ففي المسرح الملحمي، يُعتبر شخصية غير مرئية لكنها فعالة، وهو المستهدف الأساسي في بناء الوعي الدائم، حيث يُدفع إلى التفكير في مشاكله الحقيقية من خلال مشاهد المسرحية.
وتعتمد المسرحية على رموز تعزز فكرة الصراع بين الوعي المؤقت والوعي الدائم، ومن أبرزها الكرسي فيرمز إلى الحقيقة والسلطة، لكنه يكشف أن الجلوس عليه لا يعني بالضرورة التغيير، بل مجرد إدراك زائل ما لم يقترن بفعل. اما المرايا المتناثرة على المسرح فتعكس صورة الشخصيات، لكنها في ذات الوقت تعكس وعي الجمهور بنفسه، مما يحفز التفكير الذاتي. و الموسيقى المتقطعة التي تتوقف في لحظات معينة لإحداث الصدمة، وهي تقنية بريختية تهدف إلى كسر الإيهام المسرحي وإيقاظ عقل المشاهد.
ان البداية للمسرحية مهمة في البناء والمعنى حيث تأتي المسرحية في سياق شارع مزدحم حيث يدعو صاحب الكرسي الناس للجلوس عليه، مما يثير الفضول والشك في الوقت ذاته. هذه البداية تمثل دعوة للوعي، لكنها لا تفرض رأيًا معينًا، بل تترك الجمهور في حالة تساؤل. اما النهاية فهي مهمة ايضا، فبعد أن يمر الجميع بتجربة الجلوس على الكرسي وكشف حقائقهم، يعود المشهد إلى نقطة البداية، حيث يظل صاحب الكرسي في مكانه، والجمهور هو الذي أصبح أمام سؤال جديد؛ هل سنظل نعيش في وعي مؤقت، أم أننا قادرون على التغيير؟
ان هذا النمط الدائري يعكس فكرة استمرارية الأزمة الاجتماعية، وهو أحد أهم سمات المسرح الملحمي الذي لا يعطي حلولًا جاهزة، بل يدفع المشاهدين لإيجاد الحل بأنفسهم.
وتقدم مسرحية “الكرسي ” رؤية نقدية حول الفرق بين الإدراك العابر للحقيقة وبين الوعي المستدام القادر على التغيير. من خلال استخدام تقنيات المسرح الملحمي، تدفع المسرحية الجمهور إلى إعادة التفكير في دورهم في المجتمع ليتساءلوا هل نحن قادرون على تجاوز مرحلة الوعي المؤقت إلى وعي دائم يقود إلى الفعل؟ هل التغيير ممكن، أم أن المجتمع محكوم بدائرة من الإدراك دون نتيجة؟ بهذه التساؤلات، تصبح المسرحية ليست مجرد عرض مسرحي، بل مرآة نقدية للواقع، ودعوة مفتوحة للوعي والتغيير.
قراءة لنصي “الكرسي ” في صحيفة الجسر بقلم الدكتورة الناقده انسام المعروف