وصف الباحث الموسيقي السوري صميم الشريف صوتها بأنه “خارق لم يُسمع له مثيل منذ خمسين عاماً”. وهي التي نالت جائزة ماريا كالاس في باريس في ثمانينيات القرن الماضي كأفضل “قرار سوبرانو” في العالم، بعد أن تفوّقت على أكثر من ثلاثين مطربة أجنبية، فحطّمت كل التوقعات، وحازت المرتبة الأولى بلا منازع، ولقّبت بـ”أعلى صوت نسائي في العالم”. كما نالت عدة ألقاب أخرى في المهرجان، كـ”سيدة الأناقة والرقي”، وأفضل “قرار سوبرانو”، لتغني بعد ذلك على أهم مسارح العالم، مثل “اليلدزلار” و”الكونكورد”.
صوت كلثومي عيار 24
ذهبت الجمال إلى القاهرة عام 1995، وظهرت على مسرح دار الأوبرا المصرية لأول مرة أثناء مشاركتها في المهرجان الرابع للموسيقى، فأبهرت الجميع، ووقف الجمهور – ألف وخمسمئة شخص – يصفق لها ربع ساعة متواصلة، بعد أن غنّت “افرح يا قلبي” مع الفرقة القومية للموسيقى العربية بقيادة سليم سحاب، وأدّتها – بشهادة كبار النقاد الموسيقيين – بشكل لم تسبقها إليه مطربة أخرى ممن غنّين لأم كلثوم، كما أدّت الجمال في تلك الحفلة الطقطوقة “هقابله بكرا”، والقصيدة “رباعيات الخيام” و”الأطلال”، وتمكنت من المرور على أغلب النماذج التراثية لأم كلثوم ومختلف المدارس اللحنية، من زكريا أحمد إلى محمد عبد الوهاب، مروراً بـرياض السنباطي ومحمد الموجي، وأثبتت قدرتها على التعامل مع هذه المدارس كافة، مع الحفاظ على شخصيتها الغنائية المستقلة، وبعد تلك الحفلة، دُعيت ربى الجمال مرة أخرى إلى دار الأوبرا، لتشارك في تأبين محمد عبد الوهاب، فحضرت برفقة وديع الصافي ليؤدّيا حوارية “مجنون ليلى” على غرار أسمهان وعبد الوهاب، وفي عام 1998، وقفت على خشبة مسرح مهرجان قرطاج في تونس، وكعادتها أذهلت الجمهور بصوتها الذي وصفته الصحافة التونسية بـ”الصوت الكلثومي عيار 24″. وهي التي أبدعت في أداء أغنيات أم كلثوم خلال مسيرتها الفنية، حيث غنّت لها: “الأولة في الغرام”، “عودت عيني على رؤياك”، “افرح يا قلبي”، “أسأل روحك”، “ليلة العيد”، “أنت عمري”، “أنا في انتظارك” وقد تميّزت الجمال بالتفاريد القوية أثناء أدائها لأغاني أم كلثوم، فكانت تتمرد على اللحن وتعرّب على مزاجها. وقد ساعدتها – برأي الباحثين الموسيقيين – المساحة الواسعة لصوتها على الدمج بين صفات صوت أم كلثوم العريض الرخيم، وصوت أسمهان القوي الآسر الرنان، بالإضافة إلى موهبتها الأوبرالية، فكانت تغني الأغاني الطربية بحس أوبرالي-طربي يُذهل الحضور في كل مرة.
“صعبها بتصعب”
لم تكتفِ ربى الجمال بالغناء للآخرين، بل غنّت أغنيات خاصة من ألحان: وديع الصافي، رياض البندك، سهيل عرفة، نجيب السراج، صفوان بهلوان، سعيد قطب، ماجد زين العابدين، فاروق الشرنوبي. وكانت من أوائل السوريين الذين أدركوا القيمة الغنائية لشعر نزار قباني، فغنت له قصيدتين هما: “لماذا تخليت عني”، و”لن أعود”، كما برز تعلّقها بسورية من خلال الأغاني الوطنية التي أدّتها بأسلوبها الخاص، فغنّت عدداً من الأغاني، منها “كم لنا من ميسلون” و”يا عروس المجد”، من كلمات الشاعر عمر أبو ريشة الذي كتبها عام 1946 بمناسبة جلاء الفرنسيين عن الأراضي السورية، وكانت قد غنتها سابقًا سلوى مدحت من ألحان فيلمون وهبي، إلا أن الجمال – بشهادة الجميع – أضفت إحساسًا آخر على الأغنية حين غنتها بتطريب عالٍ وقوة في الصوت، ولم تنسِ ابنة حلب أن تغني الموشحات الحلبية، فاستطاعت أن تلوّن موشح “نسيمات الصبا” وتقدّمه برصانة وتلوينات جميلة، ويُعد “فاكر ولا ناسي” ألبومها الرسمي الأول، وضمّ ست أغانٍ، تعاملت فيه مع عدد من الملحنين، منهم عماد سليم وفاروق الشرنوبي، وحققت أغنيتها “صعبها بتصعب” نجاحاً كبيراً. وقد رفضت تصوير فيديو كليب لها كما كان شائعًا في منتصف التسعينيات، وكانت تقول دائمًا إنها لا تحب الفيديو كليب، ولا ترى نفسها فيه، لأنها كانت تعتبره مجرد عرض للأزياء والأجساد على الشاشة، وكأنه “سوق للرقيق” يتم فيه التنافس على إظهار المفاتن فقط، ولا يمتّ للفن بأي صلة. ولهذا ظلّت مبتعدة بشكل كامل عنه، وفي عام 2005، سجلت الجمال ألبومها الثاني الذي حمل اسم “ليالي عمر”، وضمّ أربع أغانٍ كتبها ولحنها الملحن ماجد زين العابدين.
زمانها هو زمن الكبار
وضع الفنان والصحفي اللبناني “غابرييل عبد النور” المهتم بفن الجمال صوتها إلى جانب صوت أم كلثوم وأسمهان، ورأى أن زمانها هو زمن الكبار أمثال: فريد الأطرش، والشيخ زكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ومحمد عبد الوهاب، الذين يليق بهم أن يلحنوا لها، فصوتها برأيه قادر أن يغني أم كلثوم وأسمهان وفيروز، وأنه نادرًا ما نجد صوتًا يغني ثلاثة أنماط مختلفة، ويتقنها بإمكانيات عالية مهمة وإحساس رهيب، مبينًا أن مساحة صوتها كبيرة، ولديها استطاعة التنقل بين الصوت الطبيعي والأوبرالي بسلاسة كما أسمهان وفيروز، وأن تنقلاتها لا نشعر بها، وقد كان بإمكانها أن تصعد إلى طبقات عالية جدًا وبإحساس كبير، لذلك كانت الجمال برأيه من الأصوات القليلة في الشرق التي تجمع ما بين الشرقي بأقصى حالاته وتعدد مقاماته، وقدرتها الكبيرة على الارتجالات والغناء بالصوت الغربي والأوبرالي بكامل الاحترافية، لذلك كانت تمتلك الصوت الكامل، حيث كان لصوتها القدرة على الإحاطة بأكثر من أربعة عشر مقامًا موسيقيًا.
بنت حلب
ولدت ربى الجمال واسمها الأصلي “زوفيناز خجادور قره بتيان” في مدينة حلب بسورية عام 1966، لأب حلبي من أصل أرمني وأم لبنانية. بدأت مشوارها الفني بشكل فعلي في عام 1975 عندما اعتمدت كمطربة في إذاعتي بيروت ودمشق عام 1979، التي كانت تفتخر بأنها حققت الانتشار من خلالهما. يُشاع بأنَّ عائلة ربى الجمال لم تكن موافقة في بداية مشوارها على أن تصبح مطربة، فقد كانوا يأملون أن تصبح طبيبة، هذا ما دعا ربى إلى السفر إلى فرنسا، وبعدها إلى لندن من أجل دراسة الطب والاختصاص في طب الأطفال، ولكنها لم تعمل أبدًا في هذا المجال. وهناك تعرفت على مدير الأوبرا الذي أعجب بصوتها الـ (سوبرانو)، وطلب منها أن تشارك في مهرجان (ماريا كالاس) الذي كان فيه
30 متشاركة من عدة دول أوروبية وأجنبية، فنجحت فيه وأخذتط المرتبة الأولى وأخذت لقب أعلى صوت نسائي في العالم، ومن الألقاب التي حصلت عليها في المهرجان “سيدة الأناقة والرقي” و”أفضل قرار سوبرانو”. رحلت عام 2005 عن عمر ناهز الـ39 عامًا، إثر إصابتها بسكتة دماغية، ودفنت في دمشق.