ليس من السهل أن تحدث صورة هذا القدر من الصدى. ليس من العادي أن يصعد اسم مخرج محاصر وممنوع من مغادرة بلاده إلى منصة المجد، بينما هو بعيد، صامت، وربما يشاهد من خلف نافذة صغيرة في بيته الذي تحرسه الظلال. جعفر بناهي، هذا الاسم الذي أصبح مرادفاً للمقاومة الفنية، حصد السعفة الذهبية لمهرجان كان 2025 عن فيلمه « لم يكن سوى حادث ». لكنها ليست سعفة ككل السعفات، بل صرخة في قلب العتمة، وردّ اعتبار ليس فقط لفنان، بل لأمة تبحث عن نفسها. منذ أكثر من عشرين عاماً، وضع بناهي تحت رقابة لا تهدأ. منع من التصوير، من السفر، من الكلام، ومع ذلك لم يصمت. كان يحمل كاميرته كما يحمل آخرون حقائب اللجوء أو لافتات التظاهر. يصوّر داخل سيارته، في أروقة بيته، على أطراف المدن الإيرانية التي تعرف الحقيقة ولا تبوح بها. لم يكن مشروعه مجرد نقد للسلطة، بل دفاعٌ مستميت عن فكرة أن العدالة لا يجب أن تكون رهينة للرقابة الأيديولوجية أو السياسية. أن الحرية ليست ترفاً، بل ضرورة إنسانية. فوزه اليوم هو تتويج لهذا الصمود. إشارة إلى أن العالم ما زال يرى، وما زال يعترف بالفن حين يكون ضميراً. الفيلم الفائز ليس فقط عملًا سينمائياً قوياً، بل وثيقة ألم، شهادة على قمع لا يتوقف، ومقاومة لا تنكسر. ففي بلدٍ يسجن فيه المخرجون، تهاجم فيه النساء بسبب خصلات شعر، ويكمم فيه الشعراء، لا يمكن للكاميرا أن تكون محايدة. السينما الإيرانية، رغم القيود، ما زالت تنبض. تحفر عميقاً في جراح مجتمع مقموع، لكنها لا تنزف يأساً، بل أملًا. من تحت الرماد، تخرج أفلام بناهي ورسولأف ومخرجين شباب لا يعرفهم العالم بعد، لكنهم يحملون نفس الشجاعة: أن تقول ” لا ” في وجه الخوف، وأن تصنع صورة تشبه الحقيقة في زمن التزوير الجماعي.
إن ثقافة إيران الحقيقية ليست ما تصدّره السلطة من شعارات، بل ما يقوله الفن في همسه العميق: إن الإنسان أسبق من النظام، وإن العدالة الاجتماعية ليست بدعة غربية، بل نداء داخلي يبحث عن كرامته. قد لا يكون بناهي حراً في جسده، لكنه حرّ في رؤيته. وحين تمنح لجنة مهرجان كان السعفة الذهبية لعمله، فإنها تكرّم تلك الحرية غير القابلة للمصادرة. تلك الحرية التي لا تتوسّل، ولا تتراجع، بل تُراكم حضورها حتى تصبح واقعاً. في زمنٍ يُلاحَق فيه الفكر، ويخنق فيه الإبداع، يظهر فوز بناهي كحالة استثنائية من النور. هو تذكير مؤلم، لكنه جميل، بأن الفن ما زال يقاوم. وأن الحلم بإيران ديمقراطية، مدنية، عادلة، ليس حلماً بعيداً، بل طريقاً بدأ يعبَّد، بالصوت، بالصورة، وبالوجع.
مبروك لجعفر، ولمن يشبهونه في الإيمان الصلب بأن الكاميرا، مهما كانت محاصرة، تظل سلاحاً نبيلًا في وجه القمع.
أسامة عبد الكريم