مواضيع ذات صلة

العلاقة بين المسرح والحياة في ملتقى الشارقة للمسرح العربي

أمينة عباس – دبا الحصن

استكمالًا للمادة التي تم نشرها يوم أمس عن عروض مهرجان دبا الحصن المسرحي للعروض الثنائية، بعد أن أُسدل الستار عليه يوم 27 مايو 2025، وكما وعدناكم في تسليط الضوء على الفعاليات المتعددة التي ضمّها إلى جانب العروض التي قُدّمت، نتابع في هذه الإطلالة الحديث عن الندوة الفكرية التي عُقدت ضمن ملتقى الشارقة للمسرح العربي بنسخته العشرين، والذي كان منذ انطلاقته قبل عقدين من الزمن منصة فكرية وثقافية لتبادل الأفكار والآراء والمعارف بين المشتغلين في المجال من مختلف الأجيال والحساسيات الفنية، حول ما يسهم في تطوير الممارسة المسرحية العربية، ويعزز مكانتها، ويعمق تأثيرها على مختلف المستويات.
وفي هذا الإطار، فقد استضاف الملتقى على مدار السنوات الماضية العديد من الحوارات والنقاشات التي تناولت جملة من الموضوعات والقضايا حول علاقة أبي الفنون بمجموعة واسعة من المسائل، منها المسرح والهوية، والمسرح والشباب، والمسرح والتاريخ، والمسرح والتغيير، والمسرح والعلوم والمستقبل.


العلاقة بين المسرح والحياة

تحت عنوان “العلاقة بين المسرح والحياة” عقد ملتقى الشارقة للمسرح العربي بنسخته العشرين لتجديد النظر والتفكير في هذه العلاقة التفاعلية بين المسرح والحياة، والانطلاق منها لتأمل حال ودور “أبي الفنون” في الوقت الراهن، ودور المسرح في مواكبة تحولات الحياة المعاصرة، وعلاقته بالفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية، وذلك بمشاركة نخبة من المفكرين والنقاد والممارسين المسرحيين من الوطن العربي، وقد استمر الملتقى على مدار يومين – بإدارة وليد الزعابي، د. خالد البناي – شارك فيها: د. عمر علوي (تونس)، بلال الجمل (مصر)، ميس الزعبي (الأردن)، د. كاتيا الطويل (لبنان)، د. عمر العناز (المغرب)، زياد عيتاني (لبنان).

علاقة المسرح بالحياة العارية

يقول المفكر والناقد د. عمر علوي في مشاركته: “يشكّل مبحث المسرح والحياة من أهم المباحث التي تُطرح اليوم، غير أنّ المسألة ليست بتلك البساطة التي يبدو عليها الأمر. لذلك حاولت في مشاركتي أن أختبر علاقة المسرح بالحياة العارية بالعودة إلى جورجيو أغمبن، لأن طروحاته اليوم تُعتبر منارة داخل الجماعات العلمية سواء في اختصاص الإستيطيقا أو الفنون البصرية، ويشكّل مصطلح الحياة العارية المفهوم المفصلي الذي تدور حوله إجمال أبحاثه. والحياة العارية هنا بمعنى الحياة التي تم ضبطها بسلسلة من المعايير إلى حدود إفقارها من وجودها ولعل المسرح يتدخل هنا من أجل تعليق نشاط العالم ومنحنا إمكانية رؤية ما الذي تم الإجهاز عليه فعليًا كي يتم استئنافه. حيث بيّن أغمبن، وهو يعاين المسرح، أنّ المسرح بكل اختصار هو تحرّر الحركة من الوظيفة، أي الإبقاء على الحركة دون معيار”.


التأثير المتبادل بينهما

ورأى الناقد أ. بلال الجمل أن العلاقة الجدلية بين المسرح والحياة شكّلت إحدى القضايا المهمة التي شغلت اهتمام النقاد والفلاسفة والكتّاب على مرّ التاريخ، وذلك بسبب التأثير المتبادل بينهما، حيث تُفضي تغيّرات الواقع الحياتي الاجتماعي الجذرية الراديكالية إلى تطوّر المسرح، فتهيئ المناخ لنشأة المذاهب والاتجاهات المسرحية كنوع من الاستجابة الجمالية لاحتياجات هذا الواقع الفكرية والسياسية والاجتماعية الجديدة، وعلى الصعيد الآخر، يترك المسرح أثرًا ملحوظًا على الواقع المعيش وتشكيل فكر وسلوك الأفراد لتحسين سبل العيش واستشراف مستقبل أفضل، حيث إن “السلوكيات وأسلوب الحياة المعروضة على المسرح تشكّل حتمًا أثرًا فعالًا على سلوكيات وأسلوب الحياة المعاصرين”.
وبعد تحليله لأزمة الإنسان المعاصر وعلاقتها بالمسرح، خلص الجمل في الخاتمة إلى أهم السمات الجوهرية المشتركة التي شكّلت جوهر التجربة المسرحية عبر مراحل تطوّر المسرح الثلاث، وعكست الدور الحيوي للمسرح في الحياة، استنادًا إلى الفرضية التي تنص على أن المسرح هو المسرح باختلاف أساليب ووسائل تقديمه المتغيرة مع تغيّرات ظروف العصر، ثم استنتاج الدور المنوط به المسرح الآن في ضوء تغيّرات العصر، من أجل تجاوز تلك الأزمة المستفحلة واستشراف مستقبل أفضل يعمّه التفاؤل والأمل والتعايش السلمي.

محاكاة الواقع

وبيّنت الممثلة والمخرجة ميس الزعبي في مداخلتها، أن المسرح ومنذ نشأته وانتشاره، لعب دورًا حيويًا في تشكيل الوعي الجمعي، مقدّمًا بذلك منصة للتعبير عن القضايا المجتمعية والفردية التي تهمّ الإنسان المعاصر في كل زمان، ويتم بذلك تسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية – الحياتية اليومية – والنظر إليها كضرورة طرح في سياق متقدّم يُعنى به المسرح في سلّم أولوياته: “وتتجلّى أهمية المسرح في قدرته على محاكاة الواقع؛ نقده، والتأثير فيه، مما يجعله مرآة تعكس الحياة بكل تفاصيلها وتعقيداتها. وهو، ومنذ العصور القديمة، كان وسيلة فعّالة لنقل الواقع الاجتماعي والثقافي، ولذلك يُعتبر مرآة للمجتمع، حيث يعكس همومه المتجدّدة وتطلّعاته، ويسلّط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية من خلال العروض التي يتم فيها تقديم نقد بنّاء للممارسات الاجتماعية، مما يسهم في زيادة وعي الجمهور ودفعه للتفكير في واقعه، مع الإشارة إلى أن دور المسرح لا يقتصر على عكس الواقع فحسب، بل يتعدّاه ليكون أداة للتغيير الاجتماعي. من خلال تقديم قضايا مجتمعية حساسة، يسهم المسرح في زيادة الوعي وتحفيز الحوار حولها. كما يُعتبر المسرح في مجال التعليم والحياة أداة تعليمية فعّالة، حيث يسهم في تطوير مهارات التواصل، التفكير النقدي، والتعبير عن الذات من خلال المشاركة في الأنشطة المسرحية، حيث يتعلّم الأفراد كيفية العمل الجماعي، وفهم وجهات نظر مختلفة، والتعامل مع المشاعر والتجارب المتنوعة”.

علاقة المسرح اللبناني بالواقع

وأكّدت الكاتبة والناقدة د. كاتيا الطويل في مشاركتها عن “علاقة المسرح اللبناني بالواقع”، أنه عندما يتجدّد الفن في المجتمع، تتجدّد معه الحياة الفكرية والثقافية والسياسية، فالأساس هو النهل من الموجود والحياة الواقعية عبر فكفكتها وإعادة صياغتها بطواعية مرنة. والمسرح لا يعني المصالحة مع الحاضر ومع الماضي فقط، بل هو مصالحة مع الذات، ومكان اعتراف، ومساحة بناء مستقبل واعد يتخطّى فيه الفرد نفسه وهواجسه ومخاوفه، الوظيفة التحرّرية: “ويبدو اليوم أن المسرح اللبناني هو مسرح ملتزم بقضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والحياتية، فالفنان هو المتكلّم باسم مجتمعه، وهو لسان حال المهمّشين والمظلومين. يكتشف الجمهور اللبناني في الفنان المعاصر دوره الريادي، فهو يسعى إلى أن يؤثر ويتأثر بما يعانيه ويُعايشه، وفي ما يطمح إليه. يقول صانع المسرح اليوم رؤياه بشكل إستيطيقي، إنما أيضًا عنيد، فهو يُجرّب ويبحث ويُخاطر ويُقاوم باستمرار، حتى ولو كان ذلك على حساب الموروث، والتخلّص من الروتينية الثقافية والتبعية للآخر”.
وتُضيف الطويل قائلة: “صحيح أن الجمهور يلقى فيه صدى تخبّطاته وأحزانه وهمومه، إنما ما يزال المسرح لم يدخل في النسيج اليومي الحياتي للفرد اللبناني. فخطأ من هو؟ وما خصائص روّاد المسرح اللبناني اليوم؟ وإلى أي الفنون والمسرحيات يميلون؟ ويلاحظ متتبّع المسرح اللبناني أن الأعمال المعروضة مقسومة بين أعمال مترجمة ومنقولة عن أعمال عالمية وروائع أدبية خالدة، كمثل أعمال تشيخوف وبريخت وغيرهما، وبين أعمال منبثقة من الواقع المعاش. فيجد الجمهور نفسه أمام مسرحيات تعكس الحياة الاجتماعية، من أحوال المرأة مرورًا بأحوال السجناء والمرضى فالمقهورين. ويجد الجمهور نفسه كذلك أمام مسرح يعكس الحياة السياسية بمتاهاتها ووحولها، من أزمات الهوية إلى مأساة الهجرة، ومعضلتي الحرية والطائفية، وصولًا إلى الأحكام المسبقة على الآخر والحزازيات بين الأطراف المتناحرة سياسيًا، مع التوقّف الأزلي عند الحالة الاقتصادية والانهيار المالي والمصرفي وصعوبات العيش”.


تأويل الحياة في المسرح

وقدّم الناقد د. محمد العناز مداخلة بعنوان “تأويل الحياة في المسرح المغربي”، ركّز فيها على العلاقة بين الفن والحياة من منظور وجودي، مستعرضًا تجلّيات ذلك في مسرحية “الببوش أو آكلة الحلزون” لمحمد أنقار المغربي نموذجًا، بيّن فيها أن العلاقة بين الفن والحياة تنهض على إشكالات فلسفية، مثلما تقوم على تحدّيات ثقافية تتجاوز المقابلة التقليدية بين طموح الجمالي وواقع اليومي:” فالفن، من حيث كونه نشاطًا ذاتيًا ذا بعد خيالي، لا يُعدّ مجرّد ترف ثقافي بقدر ما يمثّل ضرورةً وجودية تتقاطع أصداؤها وتحقّقاتها الرمزية مع جوهر تجاربنا الحياتية”.
وحاول العناز، من خلال دراسته، استقصاء طبيعة العلاقة بين الفن والحياة، متسائلًا: “هل يمكن – اليوم – تصوّر أو تمثّل الوجود الإنساني خاليًا من الفنون؛ بصريةً كانت أم أدائية أم أدبية أم فولكلورية؟ وإلى أيّ حدّ تتواشج أنساق الحياة بالتجلّيات التي تثيرها الفنون في مناحٍ شتّى؟ أَنستطيع الفصل بينهما؟ أم إنّ مسألة الفصل تظلّ مستحيلة أمام افتقار حيواتنا الواقعية إلى الفنون؟” مؤكّدًا أن علاقة الفن بالحياة هي علاقة قائمة على التماهي الخيالي والعقلي،:”حتى إنّ الإنسان المعاصر – في كثير من الأحيان – لا يستطيع أن يفصل أو يُصدر حكمًا عمّا إذا كان ما يتلقّاه في حياته، وفي مجالات شتّى، مندرجًا ضمن نسق الوجود الاجتماعي أم الفني، ففنّ المسرح لا يُقلّد الحياة، ولا يُفترض به أن يُفسّرها على نحو سطحي، بقدر ما هو مُلزم بتفكيكها؛ أي بتأويل سيمائياتها الرمزية الخاصّة، التي تتجلّى في الحِكم المكثّفة من خلال محاورتها، وإنطاق حكايتها الصامتة، ومنحها أشكالًا وتجلّيات وأحاسيس لم تكن واردة في معيشنا العادي أو النمطي، فتأمّل علاقة فن المسرح بالحياة قد يُفضي بنا إلى أنه فنّ لا يضيف شيئًا إلى الحياة من الخارج… غير أن إعادة تأويل هذا الطرح تقودنا – مباشرة – إلى أن المسرح هو الفنّ الذي يتولّى استخراج دفائن الحياة من هامشها، مثلما يتولّى حفظ نفائس الثقافات والموروثات… ومعنى ذلك أن علاقة المسرح بالفن تُشاكل علاقة الشعر بالحقيقة، فالشعراء لا يخلقون حقائق منطقية… بقدر ما يُضيء شعرهم الإمكانات التي ما فتئت تنغمر في تدفّقات اللغة اليومية؛ بحيث يجعلون من العادي حدثًا مُلهمًا، ومن الأحاسيس المُهملة قصيدةً راسخة؛ فالكاتب المسرحي – بحسب محمد أنقار – يمكن “أن يُبدع صورة إنسانية لشخصية الآخر منسجمة ومقنعة، باستعمال أقلّ قدر ممكن من الحقائق التاريخية والمعلومات”.

الخشبةُ هي مرآةُ الحلمِ والهويةِ

تناولَ الكاتبُ والممثلُ زياد عيتاني في مشاركته علاقةَ المسرحِ بحياةِ المدن نفسها. وكيفَ يصبحُ المسرحُ شريانًا نابضًا في جسدِ المدينةِ؟ يبعثُ فيها الحيويةَ ويعيدُ رسمَ ملامحِها، حتى في أحلكِ الظروفِ وأصعبِ المحنِ: “ومن هذه الرؤيةِ، يمكننا أنْ نفهمَ كيفَ ارتبطَ المسرحُ في بيروتَ بحياةِ المدينةِ، لاسيّما في ستينيّات القرنِ الماضي، حيثُ اكتسبتِ العاصمةُ شهرتَها، فعُرفت بـ”ستِّ الدنيا”، ولم تكن نهضةُ بيروتَ في تلكَ الحقبةِ مجرّدَ تحديثٍ عمرانيٍّ أو طفرةٍ اقتصاديةٍ ونهضةٍ إذاعيةٍ ودراميةٍ على الشاشات، بلْ كانتْ نهضةً مسرحيةً بامتياز. ولأنَّ المسرحَ لا يمكنُ أن يعيشَ إلّا في قلبِ المدينةِ، لأنّه ابنُ شوارعِها وصوتُ ناسِها.”
وعادَ عيتاني في حديثه إلى ما قدّمهُ الرحابنةُ من أعمالٍ حفرتْ في ذاكرةِ المدينةِ، حيثُ كانتْ فيروزُ بأغنياتها ومسرحياتها تلامسُ وجدانَ الناسِ، وتعيدُ تعريفَ هويةِ البلادِ الفنية: “وفي تلكَ الحقبةِ أيضًا، كانَ “مسرحُ المدينة” يحتضنُ تجاربَ شبابيةً متجددةً، تطرحُ أسئلةً حولَ الهويةِ والوجودِ، بينما كانَ روجيه عسّاف يكسرُ القوالبَ التقليديةَ ليعبّرَ عن واقعِ بيروتَ بطريقةٍ جريئةٍ ومعاصرةٍ… كلُّ ذلكَ كانَ يحدثُ على خشباتٍ تحتضنُ الحياةَ بكلّ تناقضاتِها. كانتِ الحركةُ المسرحيةُ تلهمُ الناسَ، تجدّدُ فيهم روحَ المدينةِ، وتدفعُهمْ إلى إعادةِ التفكيرِ في واقعِهم، فتحوّلتْ بيروتُ إلى مساحةٍ للجدلِ والحوارِ الفنّي، حيثُ التقى المثقفون والجمهورُ على أرضيةٍ واحدة. وهكذا، كانتِ الحياةُ في بيروتَ تُقاسُ بإيقاعِ خشباتِ مسارحِها، إلى أنْ جاءتِ الحربُ التي تحملُ الموتَ في طيّاتها، وبعدَ أنْ هدأتْ نيرانُها، باتَ المسرحُ مشروعًا لإعادةِ إحياءِ الذاكرةِ الجماعيةِ. وكانتِ الخشبةُ بمثابةِ ساحةٍ لتصفيةِ الأحزانِ، ولمواجهةِ الماضي، والاعترافِ بالآلامِ، بلْ ولإعادةِ رسمِ الحلمِ الذي لم يمُتْ، لتعلنَ تحديًا للخرابِ، وبأنها ما تزالُ قادرةً على الفرحِ، على التفكيرِ، وعلى الصمودِ، حاملةً نخبةً من ألمعِ مسرحيّي خشبةِ الخلاصِ ليبثوا “الأوكسيجين” في روحِ المدينةِ، من زياد الرحباني ولغتِه المتهكمةِ إلى فرادةِ يحيى جابر في قراءةِ التناقضاتِ اللبنانيةِ بشكلٍ ساخرٍ، إلى قصصِ رفيق علي أحمد في بيوتِنا، إنّ نهضةَ بيروتَ بعدَ الحربِ ليستْ مجردَ قصةِ نجاحٍ فني، بلْ هي شهادةٌ على قدرةِ المدنِ على البعثِ من الرمادِ حينَ تحافظُ على مسارحِها. فالمسرحُ هو الشاهدُ الذي لا يتركُ القصةَ تموتُ، وفقَ هارولد بينتر. وهكذا، في بيروتَ كما في مدنِنا العربيةِ، الخشبةُ هي مرآةُ الحلمِ والهويةِ، وحين تُضاءُ، تولدُ المدينةُ من جديدٍ. ولذلك، فالمسرحُ سيبقى دائمًا صلةَ الرحمِ التي لا تنقطعُ بينَ المدينةِ وروحِها، وبينَ الإنسانِ ومعناهُ”.
وفي ختام الملتقى، كرّم مدير المهرجان أحمد بورحيمة المشاركين من الفنانين والباحثين، وسلّمهم شهادات تقدير لمساهماتهم في إنجاح ملتقى الشارقة المسرحي .