مواضيع ذات صلة

حوار مع الفنان الفلسطيني غنام غنام

يعيد موقع ma5tv الثقافية نشر الحوار الذي اجرته الزميلة أمينة عباس في مجلة الهدف الفلسطينية مع الفنان الفلسطيني غنام غنام

نشر في مجلة الهدف عدد مايو (71) (1545)

ليس بغريب أن يُلقّب المخرج والكاتب المسرحي غنام غنام بسندباد المسرح الفلسطيني وأحد سفراء المسرح الفلسطيني، حيث كان المسرح وما زال بالنسبة له وسيلته الأنضى، يدافع من خلالها عن وطنه الذي غادره جسداً وبقي في قلبه يحمله في حلّه وترحاله، وقد جعل من القضية الفلسطينية نقطة مركزية في معظم أعماله التي تزيد عن خمسين عملاً، ليُعلن في نهاية عرض مسرحيته “بأم عيني 1948” في أيام قرطاج المسرحية أنه منذ هذا العرض حتى نهاية عمره سيقدّم كل أعماله تحت عنوان “مسرح فلسطين الحرة”: “نكاية بهذا العالم الذي يستكلب على شعب فلسطين وغزة سأسمي كل أعمالي باسم فلسطين الحرة حتى لو قدّمت كاليغولا وعطيل”.

*من فلسطين إلى عمّان كان المسرح وسيلتك للبقاء، فماذا عن البدايات فيه؟

**هُجّرت كفلسطيني من بيتي وأرضي عام 1967 وكنت في عمر الثانية عشرة قاصداً مدينة جرش الأثريّة في الأردن، ومُحمّلًا بشغفي في المسرح الذي كنتُ أمارسه في مدرستي، وكان المسرح وسيلتي الأجدى كلاجئ لأعبّر عن هويتي وأتفاعل مع المجتمع الجديد، فلم أتوقف عن تقديمه، مستعيداً كل ما اشتغلتُه في أريحا مع من هم أكبر مني وأصغر مني لأصبح نجماً مدرسياً خلال عام واحد بلا منازع، ومن هنا عرفتُ أن المسرح هويتي ومجتمعي وثقافتي والدرع الحصين، فدونه أكون بلا لون ولا رائحة.. وحين انتقلتُ إلى عمّان عام 1983 احترفتُ المسرح في العام 1984 وكان حظي وافراً أنني بدأتُ الخطوة الأولى مع مؤسس المسرح الأردني المعاصر الحديث هاني صنوبر الذي تخرّج من أميركا عام 1959 وبدلاً من أن يقصد عمّان قصد دمشق وساهم في تأسيس المسرح القومي في سورية، وحين عاد إلى الأردن أسّس أول تنظيم مسرحي محترف تحت عنوان “أسرة المسرح الأردني” ليقدّم عملاً فنياً فيه وجوه جديدة، وكنتُ من بين هذه الوجوه بعد أن آمن بي ومنحني ما يمنحه المعلّم لتلميذه.. ثم شكّلت فرقة مسرحية تحت مسمّى “موال” قدّمتُ من خلالها أول عمل مسرحي تحت عنوان “اللهم اجعله خيراً” من تأليفي وإخراج جبريل الشيخ ولعبتُ دوراً رئيسياً فيه، وبعده رفعتُ سقف التحدي فأنجزتُ كمخرج ومعدّ مسرحية “ما تبقّى لكم” ل غسان كنفاني وقد مُنعت من العرض قبل الافتتاح بيوم، وحُلّت الفرقة على إثر ذلك.. ولأن المسرح أصلب وأصعب من أن يسقط من حياتي أعدتُ تشكيل الفرقة تحت مسمى “مختبر موال المسرحي” الذي كان علامة بارزة في خارطة المسرح الأردني في التسعينيات، ومن خلاله قدّمتُ عدة أعمال مسرحية: “عنتر زمانه والنمر” و”من هناك” و”الجاروشة” و”كأنك يا أبو زيد”.. ثم تركتُ المختبر نتيجة عدة خلافات لأبدأ من جديد، فشكّلتُ فرقة “المسرح الحر” وقدّمتُ فيها أعمالًا مهمة، وفي العام 2006 تركتُها وبدأتُ أقدّم أعمالي باسم “فرقة غنّام غنّام”.

*تتحدث في مسرحية “بأم عيني” عن رحلتك إلى فلسطين.. حين يكون الممثل صاحب التجربة الشخصية في العرض هل تبدو المهمة أسهل أم أصعب؟ وكيف حصّنتَ نفسك من عدم الإغراق في الذاتية؟

**عرض “بأم عيني” لا يقتصر على كونه مجرد عرض مسرحي، بل يوثّق معاناة الشعب الفلسطيني وصموده في الأرض المحتلة، ويتناول رحلتي إلى الأراضي المحتلة التي قمتُ بها عام 2017 رغبةً مني في زيارة ابنتي التي تقيم في الناصرة بعد خمس سنوات من الانقطاع عن التواصل المباشر.. تجوّلتُ في الناصرة، ومنها إلى حيفا، ثم عكا، وزرتُ بيت غسان كنفاني فيها دون علم سكانه من المحتلين الذين يعنّفون كل من يقترب من البيت ويحاول تصويره، كما أقمتُ ورشة للحكي في أحد المراكز الثقافية الفلسطينية، أتبعْتُها بتقديم عرض مسرحيتي “سأموت في المنفى” سرّاً وسط مجموعة مختارة من الضيوف.. قد تكون الحكاية شخصية في جوهرها، ولكن سيكتشف الجمهور أنها حكاية الجميع، والسؤال هو: كيف نُحوّل الذاتي إلى موضوعي؟ والمهارة تكمن في تقديم تجربتي لتُصبح تجربة الآخرين وكأنهم عاشوها.. في مسرحية “بأم عيني” تحدّثتُ عن رحلتي التي قمتُ بها إلى فلسطين ورافقني حينها 15 شخصاً لم يخطر ببالهم أن يكتبوا عن ذلك، بينما وجدتُ ككاتب مسرحي أن ما سأُسجّله عن هذه الرحلة سيكون نصاً مسرحياً غير عادي بالنسبة لي.. السهل فيه أنها كانت حكايتي، انتقيتُ منها ما أريده بقصد تكريس الفكرة وإيصالها بشكل حاسم، وعدم خلطها بأي معلومة أخرى يمكن أن تُشوّشها وتُضعفها.. أما الصعب فيها فيكمن في أن أشياء كثيرة كنتُ أرغب في الحديث عنها لكني وجدتُ أنها لا تصلح للقول ضمن البناء الدرامي، وبعضها لا يصحّ البوح به لأنه يؤذي آخرين.. لا بد من الاعتراف أن هذه العروض فيها معاناة وتعب نفسي، فكيف لي مثلاً أن أنقل تلك اللحظة التي كنتُ أبكي فيها إلى المسرح دون أن أبكي؟ من هنا فإن التحضير للعرض أخذ مني عدة أشهر من أجل التخلّص من مشاعري الشخصية لأدخل في سياق الممثل والمؤدّي واللاعب الذي يُبكي الجمهور دون أن يبكي.

*تستغني في عروضك عن العناصر الفنية لتقف أمام الجمهور كممثل أعزل، فعلى ماذا تراهن فيها؟

**أراهن على الأداء والمضمون في نجاح العرض، فهما سلاحي للوصول إلى الجمهور الذي يتجاوز وضعه كمتفرج ليصبح شريكاً فيه من لحظة دخوله للمسرح.. اليوم وأنا في هذا العمر وعندما تضيق المساحة الباقية من العمر وتزداد الضغوطات التي علينا لم يعد عندي ترف الوقت للتفكير بأشياء أخرى ولا أنكر أنني أقول لنفسي أحياناً: يجب أن أغيب عن الواقعية والرمزية وأستميل التقنيات في مسرحي لأنني أحب أن أشاهد عرضاً فيه سينوغرافيا مدهشة، لكن عندما أعمل لا أحب أن أعمل سوى ببعدين: أنا والجمهور مباشرة، عقلي بعقلهم، وخيالي بخيالهم، ورأسي برأسهم، لنلعب سوياً، وهذا الميل لم يبدأ اليوم إنما منذ العام 1992 حيث قدمتُ من هذا النمط “عنتر زمانه والنمر” و”الزير سالم” و”معروك الإسكافي” و”عبد الله البري” و”آخر منامات الوهراني” وكل سنتين أقدم عملاً من هذا النوع الذي أفلت فيه من المسرح ومن التقنيات باتجاه اللعب المسرحي رغبةً مني في تقديم رسالة محددة تقنياً وفكرياً تؤكد على أن الفرجة نوع مسرحي نحتاجه كثيراً ويجب أن تكون له مكانة في المشهد المسرحي رغم صعوبته.

*”بأم عيني” من العروض التي قُدمت في عدد من البلدان العربية وأجمع الجميع عليه.. من هنا أسألك: ما هو العرض المسرحي الذي يتفق الجميع على نجاحه برأيك؟

**ما يجب أن يتوفر في العرض ليجمع عليه جمهور الوطن العربي هو قدرته على مخاطبة العامة والخاصة، وهذا ما تحقق في “بأم عيني” الذي عُرض في عدة دول عربية وتفاعل الجمهور معه كثيراً، وهذا يؤكد أن ثقافتنا واحدة وهي وإن اختلفت في بعض التفاصيل إلا أن شكل الحكاية والتلقي عندنا واحد.

*جعلتَ من القضية الفلسطينية نقطةً مركزية في معظم أعمالك فكيف تعامل الجيل الشاب مع القضية الفلسطينية من خلال المسرح؟

**أنا من جيل الثمانينيات، وأتعامل مع الشباب في كل أعمالي، ومن خلال تجربتي الذاتية أرى أن مجموعات ليست بقليلة منهم يعرفون معنى الالتزام بالقضية، وكلهم يعملون وعلى صلة وثيقة بالأحداث الجارية، سواء في المسرح أو في أعمال أخرى.. وبالعموم أنا كمتابع للأعمال التي تُقدَّم والتي أتابعها بشكل مباشر أو عبر الفيديو أو في المهرجانات أقول: إن من يدافع عن قيم الحق والخير والعدالة والحرية والجمال في أعماله فإنه يدافع عن فلسطين حتى لو كان اسم فلسطين غير موجود في المسرحية لأن أي محاولة للتغيير في الثقافة والذائقة تعني أن فلسطين حرة، ومن المؤسف أن مشكلتنا اليوم تكمن في تشوه الذائقة والثقافة، وإيماننا بقيم الخير والحق والجمال والحرية، وهذه القيم اليوم غير متحققة، ويعتدي عليها من يعتدي.

*كيف ترى واقع المسرح في فلسطين؟

**المسرح في فلسطين مسرح ناضج وناشط وفاعل، والمسرحيون في فلسطين يعملون بدأب شديد تحت القصف والضرب، وما يحدث حالياً يتطلب الارتقاء مسرحياً إلى مستوى التحدي، وقد عادت فلسطين مجدداً إلى المشهد السياسي العالمي بعد محاولات محوها وتغييبها عربياً ومحلياً.

*خضتَ تجربة المونودراما التي برعتَ فيها في وقت متأخر نوعاً ما، فما هي الأسباب؟

**خضتُ غمارها عام 2007 وقبل ذلك كان الجميع يُحرّضني على القيام بعمل مونودراما، ولكنني كنت أخاف، ولم أستطع أن أخوض هذه التجربة إلا عندما أصبحتُ متسلّحاً بفنان كبير هو خالد الطريفي، والسبب أن المونودراما شكل مسرحي صعب، وصعوبتها تكمن في: ما هو الشيء الذي سيجعل الناس يجلسون ساعة لمشاهدة عرض لممثل واحد؟ خاصةً وأن الجيل الحالي، جيل الموبايل، ليس لديه قدرة على المتابعة الطويلة، وقد أثمرت تجربتي فيها: “أنا لحبيبي” و”عائد إلى حيفا” ثم “سأموت في المنفى” فـ”بأم عيني 1948″.

*الممثل هو الأساس في المونودراما، فهل يصلح أي ممثل لها؟

**الممثل هو الأساس في أي عمل مسرحي، وهو كذلك بشكل خاص في المونودراما، والصعوبة الكبرى فيها تكمن في أن يمسك هذا الممثل بخيوط اللعبة، وخيوطها منها ما هو ثقافي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو تقني (تقنيات التمثيل) وهذه التقنيات يجب أن تكون مبنيّة بخبرة وثقافة واسعة، وبالتالي فعلى ممثل المونودراما أن يكون مثل الساحر، لديه القدرة في كل لحظة على إدهاش الجمهور، ولأن المونودراما من أصعب الأنواع المسرحية استغربتُ حين سمعتُ مرة عن نية أحدهم القيام بمسابقة مونودراما في المسرح المدرسي ولا أدري كيف يمكن لأحد أن يفكر بذلك، فهذا أمر كارثي، مسرح مدرسي ومونودراما؟! المونودراما فن صعب جداً، ومن يقول غير ذلك فهو شخص مستسهل.

*في المونودراما غالباً ما تكون أنت الكاتب والمخرج والممثل، فعلى من تعتمد في تقييم ما تقوم به؟

**مع أنني مع التخصص في كل شيء لا أرى مانعاً في أن يكون المسرحي هو الممثل والمخرج والكاتب، وهذا ما فعلتُه في الكثير من الأعمال، ولكن بشرط أن يقوم بكل هذه الأدوار دون أن يعتدي دور على دور آخر.. وبالنسبة لتجربتي معها فأنا أول مراقب ومنتقد لعملي، وشديد القسوة على نفسي، ولا أستسهل، وعندما أصل لمرحلة من الاقتناع أن عملي تبلور أقوم بعروض فحصية حيث أدعو أشخاصاً عاديين على سبيل الصدفة لا الانتقاء لحضورها لأستفيد من أي ملاحظة لهم على العرض مهما كانت، وأكثر من يكون عرضة لهذه التجارب التي أقوم بها هم من ينظفون المكان ومن يجلبون الشاي والقهوة أولاً، ومن ثم آخذ آراء زملاء مسرحيين لي، وهذا ما أفعله عندما أنهي كتابة النص، حيث أحرص على قراءته من قبل عدة أشخاص ومن شرائح مختلفة.

*انتقلتَ بعد المونودراما لما أسميتَه بالجلسات المسرحية أو المسرح الفرجوي، فما الذي يغريك فيه؟

**انطلاقًا من دراستي للهندسة المساحية وجدتُ أن أكمل شكل هو الحلقة أو الدائرة، فهي لا نهاية لها ولا بداية، وليس فيها زوايا، لذلك يجلس الجميع فيها بشكل متساوٍ.. من هنا خضتُ تجربة الجلسة المسرحية، وهي التي أسرد من خلالها كممثل وحيد ما أريده، مستغنياً فيها عن كل العناصر الفنية في العرض المسرحي، وأهم ما يميزها أنني أستطيع تقديمها في كل مكان، مستعيناً فيها بما حملتْه ذاكرتي وبما كان يقوم به أربعة مشخصاتية شعبيين في أريحا كانوا يحيون الأفراح دون أن يدركوا أن ما يقومون به هو شكل مسرحي.. بالعموم لا أعرف إن كانت “بأم عيني” مونودراما أو مسردية، ولا يوجد لديّ قلق من التصنيف لأن قلقي دائماً في العرض المسرحي، أما النقاد والباحثون فهم من يصنّفون العروض، وهذا ليس جهلاً ولكن تأكيد على أنني لا أطرح حكاية فقط إنما سؤال مسرحي حول تكنيك بناء العرض المسرحي، لذلك أبحث دوماً عن ناقد يفكك عرضي ويشرحه وليس عن مقالات تمدحني.

*ما أهم ما يجب أن يتمتع به العامل في مثل هذه العروض؟

**أن يكون متصالحاً مع ثقافته الشعبية ولا يستعلي عليها ولا يستعديها، وأهم من أثّر في حياتي هو د.مصطفى ناصف من خلال كتابه “نحن والتراث” الذي نظم ما يدور في رأسي ورتب معلوماتي حين قال: “يجب أن نقرأ التراث قراءة ودودة لا مستعلية عليه ولا مستعدية” لأنك إذا استعليتَ عليه منعت، وإذا استعديته أغلقت كل أبوابه أمامك، لذلك بدأتُ أتعامل مع القراءة الودودة، وبالتالي فإن من يعمل في هذه العروض عليه أن يقرأ المفردات قراءة ودودة وأن يقرأ الجمهور قراءة ودودة وأن يقرأ الشكل قراءة ودودة وأن يمتلك من الثقافة العامة والخاصة والشعبية ما يؤهله لكل شيء طارئ لأن هذه العروض مفتوحة بشكل هائل، ويجب أن تُرسم بشكل ممتاز في الإعداد، وأن تُحدّد القنوات التي سيجرّ إليها الجمهور، ويجب أن يصل إلى مرحلة يعرف فيها متى يضحك ومتى يبكي، وأن يعرف مزاج الناس وكيف يقودهم نحو اللحظة الفلانية.. أما الممثل فيجب أن يكون ممتلكاً لأدواته من صوت وجسد وإشارة وإحساس ونفَس، والإشارة الصحيحة دون أن يكون هناك ثرثرة زائدة في كل شيء، لا بالكلام ولا بالحركة، رغم أن العرض كله حكي لأن كل شيء عندما يزيد عن حده ينقلب ضده، في حين أن المخرج يجب أن يكون كل هؤلاء مجتمعين لتوجيه الممثل نحو الأداء الأفضل دون أن يتركه على هواه ليكونا معاً في أعلى درجات التماهي، بحيث لا يمكن الفصل بين المخرج والممثل، وهذا تجلى مع تجربتي في “عائد إلى حيفا” مع المخرج د.يحيى البشتاوي الذي شاركتُه في الإعداد.. أما الكاتب فيجب أن يتعلم الكتابة من القرآن الكريم، فمنه تعلمتُ الإشارة الذكية والإشارة الحقيقية وكيف أطيل وكيف أختزل وكيف يكون خطابي للعامة والخاصة، فالأمي يقرأ القرآن ويحفظه ويخشع ويخاف ويؤمن، والمتبحر في العلم واللغة والدين كذلك، وهو كتاب فيه الكثير من القصص التي قدّمها وتُقرأ من قبل الجميع، ولا أحد يُخدش حياؤه، لذلك فأنا ضد الفجاجة والبذاءة في المسرح، ومن يُقحم الفجاجة والبذاءة في نصوصه بحجة أنها لغة الشارع غير قادر على التعبير عن الحالة المرادة وعاجز عن إيجاد لغة مناسبة للعرض، وبالتالي إذا لم يمتلك الكاتب هذه القدرات لن يكون قادراً على اللعب الفرجوي.

*لنتوقف قليلًا عند مسرحية «سأموت في المنفى»، فماذا تحدثنا عنها؟

** لخّصت فيها حياتي، هي سجل شخصي عائلي، تحدثت فيه عن أبي الذي رحل نتيجة حريق، وعن أخي الذي كان يتعذب في المعتقل، وأجبت فيها على سؤال هويتي. فلسطين منحتني هوية أفخر بها، بلد تحوّلت إلى أيقونة وحالة إنسانية عامة. وأنا مؤمن أن كل مثقف في العالم فلسطيني حتى تتحرر فلسطين. فلسطين هي هوية ثقافية أحيت هذا الوطن، وما يُبقي هذا الوطن هو الإبداع الثقافي. وعندما يكتب مبدع عن فلسطين مشهدًا، يجب أن يتعاطف معه العالم كله، والمسرحي الحق هو استئناف إيجابي على أحداث واقعه، فهو دائمًا يبحث عن عالم أكثر حرية وشعب أكثر وعيًا.

*لا تغيب أسماء مثل محمود درويش وغسان كنفاني عن أعمالك، لماذا؟

** غسان كنفاني تميمتي التي لا أضيعها، منه تعلمت الكتابة، لذلك هو دائم الحضور إلى جانب محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد. أَتَسلّح بهم، فهؤلاء شكلوا ثقافتي ولغتي ومعرفتي، وجعلوني أسير في هذا الاتجاه الذي أنا فيه.

*ذهبت إلى المسرح بسبب الرغبة في إخراج كل ما بداخلك، فهل تحقق لك ما أردته؟

** حتمًا لا، لكنني تحدثت عما أريد في اللحظة التي أعيشها. أنا دائمًا كنت أضع لنفسي مخططًا لما أريد قوله والقيام به، فحينما وجدت أنني لم أقدّم عملًا كوميديًا على الإطلاق، خضت التجربة، وكان عملًا كوميديًا مبنيًا على أسس نفسية، بعيدًا عن الكوميديا المجانية. كما خضت تجربة مسرح الدمى بعد أن صممت بنفسي صندوق دمى مختلفًا فيه إضاءته وستائره، فقدمت عرضين دمى من أجمل ما يكون، وكان مناسبًا لكل الأعمار. أفعل ذلك انطلاقًا من إيماني بأنه يجب أن أُجرّب وأختبر أدواتي وأُطوّرها، فلا يمكن أن أَحكم مثلًا على عرض عرائسي دون أن أفهم معضلته. لقد جرّبت كل شيء وكنت دائمًا أنفذ مخططاتي، ومع هذا أعترف أن هناك أشياء أخرى ما زلت أحلم بها ولم يتسنَّ لي تنفيذها. فهناك عمل مثلًا كتبته منذ 14 سنة “صفير في الرأس، صلاة للقدس”، كنت أحلم بتقديمه، إلا أن متطلباته التقنية تحتاج إلى إمكانيات مادية كبيرة، وهذا ما حال دون تنفيذه لعدم وجود شركة تتبناه. كما يوجد نص آخر كتبته عام 1987 عن رواية غسان كنفاني “ما تبقى لكم”، والذي سبق أن حاولت تقديمه بعد بروفات عديدة قمت بها، إلا أنه لم يرَ النور بسبب منعه، وما زلت أحلم بتنفيذه.

*مسيرة مسرحية طويلة، فكيف تعاملت مع الصعوبات التي واجهتك؟

** الإنسان السوي يُحوّل العقبة إلى فرصة ولا يقف عندها، وإلا لن يكون موجودًا في المشهد المسرحي. وأولى هذه العقبات أنني لم أدرس المسرح، ولم أستطع تحقيق هذا الحلم، فدرستُ في معهد لتعليم اللاجئين (الأونروا) هندسة المساحة، ولما دخلتُ المعهد وجدتُ أن أستاذًا كبيرًا يدعى محمود أبو غريب قد شكّل ناديًا للمسرح، فدرستُ المسرح والمساحة في الوقت ذاته، وقرأتُ من المكتبة ما لم يقرأه طلاب الدكتوراه، لأتجاوز فكرة المعلومات التي كان يمكن أن أحصل عليها من الدراسة. وللآن لا أعتمد على ما أعرفه وأعتبر نفسي جاهلًا، ولا أتردد في قراءة أي مقالة عن المسرح، لا لنقدها بل لأتعلّم منها. لقد تجاوزتُ كل الصعوبات، والسبب إيماني بمشروعي وأهمية دعمه بالثقافة والمعرفة والموقف الفكري.

*إلى أي درجة أنت راضٍ عمّا أنجزته في مسيرتك المسرحية؟

** أنا راضٍ عمّا أنجزته، وإلا لما كنتُ استمريت في العمل فيه، ولكنني لستُ مكتفيًا، وما زالت لديّ أحلام كثيرة لم تتحقق. لكنني راضٍ عن كل محاولاتي الدؤوبة في أن أتجاوز كل لحظة صعوبات لكي أصل إلى هدفي، وأنا راضٍ لأنني لم أعمل إلا بملء إرادتي، وأنا راضٍ بالقدر الذي واجهتني فيه صعوبات كثيرة تجاوزتها، لأن المسرح غايتي وحياتي، وتوقفي عن العمل فيه هو موتي.

*كيف ترى واقع المسرح العربي اليوم؟

** وضع المسرح الصحي ليس بخير، لأنه ما زال قائمًا على التجارب الفردية، ليس هناك استراتيجيات مؤسساتية تحمل المشروع المسرحي لعشر سنوات إلى الأمام، لا توجد وزارة لديها مخطط لخمس سنوات. من هنا، هو يقف على رمال متحركة. كما أننا كمسرحيين نتحمل مسؤولية ذلك، لأنه عندما يكون المسرح في خطر، فهذا يعني أننا لم نُحسن الدفاع عنه، ولم نحسن تقديمه لا للعامة ولا للخاصّة. المسرح عملية نضالية، وبدون نضال طويل يتحول إلى ترف ذاتي بالنسبة للمسرحي، ولكن بالوقت ذاته، أقول إن المسرح العربي بخير من ناحية الأجيال الجديدة المبدعة، ومن ناحية استمرار كثير من الأسماء المخضرمة.

غنّام غنّام، مؤلف ومخرج، وممثل مسرحي فلسطيني. وُلد في عام 1955 بأريحا في فلسطين. انتقل في سن الثانية عشرة مع عائلته إلى الأردن. كتب وأخرج العديد من المسرحيات، وألف القصص القصيرة. وهو حاصل على جوائز في الإخراج والتأليف المسرحي. استهلّ غنّام العمل المسرحي في السبعينات، ثم بعد انتقاله إلى الأردن أسس عدة فرق مسرحية. تدور مجمل أعماله حول معاناة الفرد الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. نال العديد من الجوائز في التأليف والإخراج محليًا وعربيًا. في عام 2007-2008 ساهمتُ في تأسيس الهيئة العربيّة للمسرح، وأصبحتُ مسؤول النشر والإعلام فيها، ثم مسؤولًا للتدريب والتأهيل للمسرح المدرسي. يستعد لتقديم عرض مسرحي جديد يحمل عنوان “فاطمة الهواري لا تصالح”، وهي إحدى ضحايا الاحتلال في عام 1948، حيث أُصيبت بالشلل نتيجة غارة إسرائيلية، وفقدت والديها وأقاربها.