مواضيع ذات صلة

الكلمة… هذا الكائن الذي يسكننا

اعداد : محمد تابت

ليست الكلمة مجرد حروف تتوالى في انتظام، إنها الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يسكننا دون أن نراه، أن يشعل فينا ناراً أو يُطفئ جرحاً بكلمة.
في البدء لم يكن الإنسان، بل كانت اللغة، ومن بعدها جاءت الحضارة، والعناق، والحزن، والقصيدة، والرسالة، وحتى الصمت. نعم، حتى الصمت هو لغة، لكنه لغة من تعب.

نتوه في الحياة، فنلجأ إلى الكتب كمن يلجأ إلى ظل شجرة في منتصف القيظ. هناك، بين السطور، نجد أناساً يشبهوننا، ماتوا منذ قرون، لكنهم ما زالوا يتكلمون معنا. رجل كتب من منفاه، وآخر كتب من سجنه، امرأة كتبت من حافة اليأس، وثالثة كتبت من شرفة عشق. جميعهم اجتمعوا في كلمة. وفي كل مرّة نقرأ فيها سطرًا، نُشفى قليلاً من وحدتنا.

الأدب لا يعطينا أجوبة، بل يمنحنا قدرةً على أن نعيش الأسئلة. يفتح لنا أبواباً نحو المجهول، لا ليُخيفنا، بل ليُعلّمنا أن المعرفة لا تنتهي، وأن أجمل ما في الإنسان هو قلقه الجميل أمام الكون. وحين نكتب، فنحن لا نُجيب، بل نشهد، نُشهِد العالم على ما في داخلنا، نضع القلب على الطاولة ونقول: “هكذا أنا… دون تنميق.”

ولذلك، لا توجد كتابة محايدة. من يكتب، يخون الصمت، ويختار أن يقف في جهة الإنسان. الإنسان المجروح، التائه، العاشق، الباحث، الخائف، الحالم. من يكتب، لا يبحث عن إعجاب، بل عن خلاص. الكتابة شفاء للكاتب، ونجاة للقارئ.
الكاتب لا يصنع الجمال فقط، بل ينقذه من النسيان. هو حارس الضوء في زمن العتمة، يلتقط الذرات التي لا يراها الآخرون، ويحوّلها إلى قصة، إلى نصّ، إلى شرفة نطلّ منها على أرواحنا.

وما من كلمة وُلدت بصدق، إلا وسكنت في ذاكرة إنسان. الكلمات لا تموت حين تقال، بل تبدأ حياتها حين تُلمَس. بعض العبارات تُنسى بعد دقائق، وأخرى تبقى عالقة فينا إلى الأبد، كندبة لا نريد أن تندمل.

فالكلمة حين تُكتَب بحبر التجربة، تصبح أكثر من نصّ. تصبح رفيقًا، مرآة، وطنًا متنقلاً، وربما… صلاة.

لهذا نكتب، ولهذا نقرأ. لا من أجل أن نُبهر أحدًا، بل من أجل أن نبقى أحياء في عالم يمضي بسرعة لا ترحم. نكتب لأننا نحبّ الحياة، رغم كل ما فيها. نقرأ لأننا نحتاج إلى يدٍ غير مرئية تقول لنا: “لست وحدك.”

والكلمة… هي تلك اليد.