بقلم: آية الحمري
في قلب المدينة الحمراء، وعلى بعد خطوات من ضجيج ساحة جامع الفنا، تنتصب “دار السي سعيد” بهيبتها المعمارية ونقوشها الهادئة، شاهدة على حقبٍ من التاريخ المغربي الأصيل، وعارضةً لفنون الصناعة التقليدية التي كانت يومًا لغة المكان والإنسان.
هذا المتحف، الذي شهد عمليات ترميم وتجديد متواصلة منذ إنشائه، يُعدّ واحدًا من أهم المعالم الثقافية المتخصصة في التراث المادي المغربي، وتحديدًا الفنون الخشبية، منقوشة كانت أم مطعّمة أم مطلية.
ماضٍ يسكن الجدران
“دار السي سعيد” ليست مجرد مبنى أثري، بل قصر بُني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من طرف الوزير سعيد بن موسى، الذي شغل منصب وزير الحربية في عهد السلطان المولى عبد العزيز، وأخو أحمد بن موسى الشرقي المعروف بـ”باحماد” الذي كان كبير وزراء السلطان آنذاك. الفناءات المرصوفة بالرخام، والأعمدة الخشبية المنقوشة، والأسقف المذهبة، تنقل الزائر إلى زمن كان فيه الجمال تقليدًا وليس ترفًا.
تحولات تاريخية
تحت الحماية الفرنسية عام 1930، تحول هذا القصر الأرستقراطي إلى متحف للفنون المحلية، واستقبل أيضًا ورشات حرفيين يعرضون من خلالها تقنياتهم التقليدية. وبعد استقلال المغرب، تم توزيع مباني دار السي سعيد بين مصلحة الصناعة التقليدية والمتحف، حيث يشغل المتحف اليوم نصف القلعة، ويضم الرياض
الكبير بقاعاته الأربعة والرياض الصغير وطابقين وعدة ملحقات.
مما لا مرية فيه أن المتحف يحتضن مجموعة غنية من القطع الفنية تنتمي إلى مراكش والمناطق الجنوبية من المغرب، خاصة مناطق تانسيفت والسوس والأطلس الكبير والأطلس الصغير وباني وتافيلالت. تشمل المجموعة الأبواب الخشبية القديمة، صناديق العرائس، أدوات الطقوس الصوفية، وآلات موسيقية تقليدية، بالإضافة إلى المجوهرات والأسلحة والفخار والخزف والسجاد والنسيج، وكلها تعكس تنوع الهوية الثقافية المغربية وعمق التأثيرات الأندلسية والأمازيغية والإفريقية في الفنون الحِرَفية.
ومن بين أبرز القطع الأثرية وعاء رخامي يعود إلى أوائل القرن الحادي عشر، يشهد على عراقة الحضارة المغربية وامتداد جذورها التاريخية.
معرض الخشب الاستثنائي
منذ أغسطس 2002، يقدم المتحف معرضًا مواضيعيًا استثنائيًا عن الخشب بعنوان “الخشب – الفن والاستخدامات”، والذي يسلط الضوء على التقاليد العريقة في صناعة الخشب المغربية وتطورها عبر
المتحف لا يقتصر على العرض فقط، بل ينظم ورشات حية للنقش على الخشب، وجولات بمرشدين متخصصين، مما يتيح للزوار، مغاربة وسياحًا، فهم السياق الثقافي للصناعات التقليدية، بدل الاكتفاء بمشاهدتها كأشياء صامتة خلف الزجاج.
بحسب وزارة الثقافة المغربية، فإن “دار السي سعيد” هي اليوم إحدى ركائز إستراتيجية الحفاظ على التراث المغربي، وتمثل تحولًا في كيفية عرض الذاكرة الجماعية بطريقة تفاعلية وعصرية.
و الجدير بالذكر ان رغم التطويرات المستمرة، يعاني المتحف – شأنه شأن متاحف مغربية عدة – من ضعف التسويق الرقمي وغياب الترويج الفعّال على المنصات السياحية العالمية، مما يقلل من إقبال الشباب المحلي. وتؤكد الباحثة المغربية في التراث، الدكتورة فاطمة الزهراء بنهيمة، أن “دمج الوسائط الرقمية في تجربة المتحف ضرورة، لا ترف، لإحياء علاقة الجيل الجديد بهويته”.
“دار السي سعيد” ليست فقط تحفة معمارية، بل مدرسة للهوية، ونافذة على المغرب الذي كان، والمغرب الذي يمكن أن يكون حين يصالح ذاته مع ماضيه. فهل نمنح تراثنا ما يستحق من عناية؟ أم نواصل دفنه تحت.