مواضيع ذات صلة

السوق الثقافي العالمي.

بقلم: هدى بن الغالية

كلما دخلتُ معرضًا دوليًا للكتاب، أو تصفحتُ قوائم الجوائز الأدبية السنوية، أو شاهدتُ كيف تُسوّق الأعمال السينمائية والفنية بعناية لا تقلّ عن تسويق العلامات التجارية، ينتابني سؤال مربك: هل أصبحت الثقافة سلعة؟ وهل يمكن لعناصر مثل الفكر، الفن، اللغة، والهوية أن تُباع وتُشترى، كما تباع الهواتف الذكية وحقائب اليد الفاخرة؟
منذ عقود، راكمت البشرية إرثًا ثقافيًا لا يقدَّر بثمن. الثقافة كانت في جوهرها حاملة للمعنى، وسيلة للتعبير عن الذات الجماعية، ونافذة لفهم الإنسان للكون والمجتمع والتاريخ. لكنها اليوم تبدو وكأنها تزحف شيئًا فشيئًا نحو رفوف المتاجر، منصات البث، قوائم المبيعات، وجداول السوق العالمي. نحن نعيش في زمن باتت فيه الثقافة “قابلة للتداول”، تمامًا كأي منتج في السوق المفتوحة. هنا لا نقف فقط أمام تحوّل في طريقة استهلاكنا للثقافة، بل أمام تحوّل في معناها ووظيفتها ومكانتها.


لنأخذ مثالًا بسيطًا: رواية تُترجم إلى عشرين لغة، تتحول إلى مسلسل على منصة رقمية، تُباع منها حقوق الإنتاج، تُباع منتجات مرتبطة بها: ملابس، أكواب، وشعارات. في الظاهر، يبدو الأمر انتصارًا للثقافة وانتشارًا لها. لكن ما الذي يُباع فعلًا؟ هل نبيع الرواية كفكرة، كجمال لغوي، كمساءلة فلسفية للوجود، أم أننا نبيع فقط القشرة الجذابة التي تجعلها قابلة للاستهلاك السريع، تمامًا كفنجان قهوة تُعدّه الآلة خلال ثوانٍ معدودة؟
الاقتصاد الثقافي ليس ظاهرة حديثة تمامًا، لكنه في العقود الأخيرة اتخذ طابعًا مختلفًا. لقد غيّرت العولمة الرقمية وجه الثقافة، وجعلتها قابلة للتدوير السريع والاستهلاك الجماهيري. صارت المنتجات الثقافية تخضع للعرض والطلب، صارت مرتبطة بمؤشرات السوق: عدد المشاهدات، المبيعات، التفاعل على وسائل التواصل، ترتيب الظهور على لوائح الأكثر رواجًا. صار على الفنان والمفكر أن يكون أيضًا “صاحب علامة تجارية”، أن يسوّق نفسه، أن يعرف كيف يتحدث بلغة “الجمهور”، بلغة “الخوارزميات”.
ولعلنا نخطئ كثيرًا إن ظننا أن هذا التحوّل لا يمس إلا المبدعين أو المنتجين. إننا جميعًا منخرطون فيه كمستهلكين، وبطريقتنا نُغذّيه. فحين نفضل كتابًا لأنه “الأكثر مبيعًا”، أو فيلمًا لأنه “حديث الساعة”، أو أغنية لأنها تتصدّر الترند، فإننا نُسهم في تحويل الثقافة إلى سوق تنافسية، نحدد فيها قيمة الفكرة بناءً على شعبيتها، لا على عمقها أو أثرها.
لكن، ما الضرر في ذلك؟ قد يقول قائل: أليس من الطبيعي أن تكون الثقافة متاحة في السوق، شأنها شأن أي منتج؟ أليس من الجيد أن تحقق الثقافة ربحًا، وأن يعيش منها أصحابها، بدل أن تظل حكرًا على النخبة؟ هذه أسئلة مشروعة، ولا يمكن رفضها بسهولة. الاقتصاد الثقافي، حين يكون منصفًا وعادلًا، يمكن أن يساهم في ازدهار الإبداع، ويمنح المبدعين فرصًا للعيش من نتاجهم، بل وقد يساعد في نشر ثقافات كانت مهمّشة. لكن السؤال الأعمق هو: أي نوع من الثقافة نُنتج ونُستهلك حين تصبح الثقافة سلعة؟
في ظل منطق السوق، تميل المنتجات إلى التبسيط، إلى ما هو مألوف وسهل الهضم. يُعاد تدوير الأنماط الناجحة، تُعاد إنتاج القصص ذاتها بقوالب مختلفة. ينتصر الترفيه على الفكر، والسطح على العمق، والسرعة على التأمل. يُطلب من الكاتب أن “يكتب ما يريده السوق”، من الموسيقي أن “يصنع ما يرقص الناس”، من الفنان أن “يرسم ما يبيع”. وهكذا، لا تعود الثقافة فعلاً نقديًا أو محاولة لزعزعة المألوف، بل تصبح أداة لتعزيز ما هو سائد، بلغة جميلة وألوان زاهية.
ومع هذا التحول، تنشأ معضلة أخرى: هيمنة الثقافات القوية على الضعيفة. في السوق الثقافي العالمي، لا تملك كل الثقافات نفس الإمكانيات التسويقية، ولا تحظى بنفس الاهتمام الإعلامي. تُقدّم الثقافة الغربية – وخصوصًا الأنغلوساكسونية – بصفتها النموذج العالمي، وتُستهلك على نطاق واسع، بينما تظل ثقافات كثيرة في الهامش، تعاني من قلة الترجمة والدعم والتمثيل. السوق لا يؤمن بالتنوع إذا لم يكن مربحًا. ومن هنا، يتحوّل التعدد الثقافي إلى تنميط، حيث تُقدَّم ثقافات الشعوب الأخرى كزينة غريبة Exotic، أو كمنتج للسياحة الثقافية، لا كمصدر حيّ للفكر والتجربة الإنسانية.
ولعل أبرز تعبير عن هذا الوضع هو ما نشهده اليوم في صناعة الجوائز الثقافية. تُصبح الجائزة أداة للشرعنة والتمويل والتسويق. لا أحد يشكك في أن كثيرًا من الجوائز تُمنح لمبدعين حقيقيين، لكن أيضًا لا أحد ينكر أن معايير “الجاذبية العالمية” و”الإمكانات التجارية” باتت تتدخل في تقييم الجودة. ومعها، تغيب أعمال عظيمة لأنها “صعبة” أو “محلية” أو “غير قابلة للتسويق”.
الثقافة كسلعة أيضًا تطرح سؤالاً أخلاقيًا، خاصة حين تدخل في مجالات حساسة مثل التراث، اللغة، الهوية. حين يُحوَّل التراث الثقافي إلى عرض سياحي، أو تُستغل الهوية كماركة تُباع، تُفقد الثقافة جوهرها كمرآة للذات وتصبح مرآة للطلب الخارجي. تُنتَج الفنون لتُرضي الذوق العالمي، وليس لتقول الحقيقة كما يراها أصحابها. وتصبح اللغة مجرد أداة “إكسسواراتية”، تُستعمل للزينة أو الطرافة، لا كأداة لبناء العالم وفهمه.
لكن هل يمكن فصل الثقافة تمامًا عن السوق؟ هل يمكن للثقافة أن تبقى نقية، مثالية، خارج منطق البيع والشراء؟ الواقع أن الفصل التام مستحيل. حتى في أكثر المجتمعات بساطة، هناك دائمًا شكل من أشكال التبادل الثقافي، سواء رمزيًا أو ماديًا. التحدي الحقيقي ليس في فصل الثقافة عن السوق، بل في إعادة التوازن. في وضع حدود، في مقاومة التنميط، في حماية التنوع، وفي التأكيد أن للثقافة دورًا آخر غير الربح: دورًا في طرح الأسئلة، في إزعاج السائد، في بناء المعنى.
لعل الجواب الأكثر إنصافًا ليس بـ”نعم” أو “لا” على سؤال “هل الثقافة سلعة؟”، بل في التأمل في ما الذي نربحه وما الذي نخسره حين نعاملها كسلعة. الثقافة، في جوهرها، لا تُختزل في المنتج، بل في الفعل الإنساني الذي يصنعه. السلعة تنتهي باستهلاكها، أما الثقافة فتبدأ بذلك. عندما نقرأ رواية عظيمة، لا نستهلكها فقط، بل نصير جزءًا من سؤالها، من حكايتها، من صداها الذي يتردد في أعماقنا. وحين نشاهد فيلماً يزعزع قناعاتنا، لا نخرج منه كما دخلنا. هذا هو الفرق الجوهري بين منتج ثقافي يُعامل كسلعة، ومنتج ثقافي يظل فعلًا إنسانيًا حيًا، يُراكم الوعي، يُحرّض على التفكير، ويمنح للحياة طعمًا أبعد من الربح والخسارة.
في النهاية، لعل مسؤوليتنا كمستهلكين، كمواطنين ثقافيين، أن نعيد تعريف علاقتنا بما نقرأ ونشاهد ونسمع. أن نعيد الاعتبار لما هو صعب، لما يتطلب وقتًا، لما لا يُصنّف بسهولة. أن نبحث عن الجمال الذي لا يُقاس بعدد اللايكات، وعن الفكرة التي تهزّنا لا تلك التي تُطمئننا. أن نُدرك أن الثقافة، حتى وإن أصبحت جزءًا من السوق، لا يجب أن تفقد جوهرها: أن تكون مساحة للحرية، وللتساؤل، وللكشف عن إنسانيتنا المشتركة.