مواضيع ذات صلة

الكاتب والمجتمع من العزلة إلى الفعل الثقافي

بقلم : دعاء سميح

لطالما التصق بالكاتب، في الوجدان الجمعي، ذلك التصوّر الكلاسيكي للإنسان المنعزل، الغارق في التأمل، المنكفئ على ذاته في ركنٍ قصي من الوجود، كأنه خارج الزمن، فوق الأحداث، أو بعيد عنها بمسافة أمان. عزلة تبدو أحيانًا خيارًا وجوديًا، وأحيانًا أخرى قدرًا لا فكاك منه، فرضته هشاشة الواقع، وفظاظة العلاقات، ومحدودية الاستماع لنبض الكلمة. لكن، مع تحوّلات العصور، وتبدّل أنماط التعبير، وتداخل الأدوار بين المثقف والمواطن، بدأ هذا النموذج التقليدي يتصدع شيئًا فشيئًا، ليظهر الكاتب في صورة مغايرة: صوتًا حيًّا في المجتمع، وشاهدًا على عصره، وفاعلًا في نسيج التحولات.


الكاتب الحقيقي لا يكتب من فراغ ولا لفراغ، بل هو ابن بيئته، يحمل ذاكرة جماعية، ووعيًا تاريخيًا، وإحساسًا متقدًا بما يدور حوله، حتى في أكثر لحظات عزلته توحُّدًا وانطواء. فالعزلة، في حقيقتها الإبداعية، ليست هروبًا من العالم، بل إعادة ترتيب العلاقة معه، وتأمّلًا في تموجاته، وصقلًا لأدوات الفهم والتعبير. والكتابة، في جوهرها، فعل تفاعل، لا انفصال، بحث مستمر عن صوت، أو صدى، أو صدع يمكن النفاذ منه إلى الآخر.
لقد كان الكاتب، عبر التاريخ، ضميرًا حيًّا، يُعبّر عمّا لا يُقال، وينبّه إلى ما يُطمس عمدًا، ويستبصر ما تخفيه الواجهة البراقة للواقع. فمن “دوستويفسكي” الذي نبش في تناقضات النفس الإنسانية، إلى “نجيب محفوظ” الذي التقط نبض القاهرة الشعبية بحسّ فلسفي، وصولًا إلى “غسان كنفاني” الذي جعل من الحبر مقاومة ومن القصة خندقًا… لم يكن هؤلاء مجرد كتّاب، بل فاعلين ثقافيين من الطراز الرفيع، مارسوا الكتابة كأداة للمعنى، وللمساءلة، وللتغيير.
وفي المجتمعات التي تعاني القمع أو الرداءة أو اختلال المعايير، يشتد الطلب على الكاتب أكثر من أي وقت. يُطلب منه أن يكون الضمير، والمرآة، والبوصلة، معًا. وهذه مسؤولية ثقيلة، لكنها نبيلة. لأن الفعل الثقافي لا يكتمل بالكتابة وحدها، بل بانخراط الكاتب في أسئلة عصره، وبانفتاحه على قضايا الناس، وباستعداده لأن يكون جسدًا في الساحة لا شبحًا في الظل. الكلمة، حين تُكتب من داخل التجربة، تكتسب حرارتها، وتصبح حجّة وجودية لا يمكن كتمها.
الكاتب ليس بوقًا لأحد، ولا دمية في يد سلطة، بل هو، بطبيعته، كائن شقيّ بأسئلته، لا يرضى بالبديهي، ولا يهادن المسكوت عنه. لذلك، فإن تحوّله من مجرد راوٍ إلى فاعلٍ ثقافي هو انتقال من العزلة إلى الاشتباك الخلّاق، من الهامش إلى قلب النقاش العام. قد لا يحمل الكاتب سلاحًا، لكنه يحمل ما هو أعمق: الكلمة القادرة على زلزلة الثوابت، وإعادة صياغة الوعي.
ولأن المجتمع الذي لا يستمع لصوته الأدبي والثقافي محكوم بالركود، فإن دور الكاتب يصبح ضرورة لا ترفًا. حضوره ليس شكليًا، بل حيوي، لأنه يحرس أسئلة المعنى، ويدفع الناس للتفكير، ويعيد الاعتبار لقيمة الكلمة في زمن يسهل فيه الكلام ويصعب فيه الصدق.
إن الكاتب، حين يُدرك مسؤوليته، لا يعود يكتب فقط ليُقرأ، بل ليُثير، ويزعج، ويقترح، ويُنير. وبين العزلة والفعل، يبقى دائمًا في حالة توتّر خلاق، يشبه الخيط الرفيع بين الحلم والواقع، بين الصمت والصرخة، بين الذات والعالم. ومن هذا التوتر بالذات، تولد أجمل الكتابات وأكثرها تأثيرًا.