كتاب “ذكرياتي” للفنانة المصرية الكبيرة سميحة أيوب، المعروفة بلقب “سيدة المسرح العربي”، يُعدّ وثيقة فنية وإنسانية استثنائية تروي فيها رحلتها الطويلة في عالم الفن والمسرح. صدر الكتاب عن مكتبة الأسرة عام 2003 في طبعته الأولى، وأُعيد إصداره في طبعة ثانية عام 2017 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمقدمة من الناقد الكبير رجاء النقاش. يتناول الكتاب سيرة حياة سميحة أيوب الفنية والشخصية، مُسلطًا الضوء على محطات رئيسية في مسيرتها التي امتدت لأكثر من سبعة عقود، ويُقدم نظرة عميقة إلى عالم المسرح المصري والعربي من خلال عيني واحدة من أبرز أيقوناته.
نظرة عامة على الكتاب
كتبته سميحة أيوب بأسلوبها الخاص، بعيدًا عن التأريخ الدقيق باليوم والساعة، كما أشارت في مقدمتها، مفضلة تسميته “ذكريات” بدلاً من “مذكرات” لأنها لا تسعى لتوثيق الأحداث بدقة زمنية، بل لنقل تجاربها الحياتية والفنية بصدق وشاعرية. يبدأ الكتاب من طفولتها في حي شبرا بالقاهرة، حيث وُلدت عام 1932، ويأخذ القارئ في رحلة عبر مراحل حياتها، منذ اكتشافها لشغفها بالتمثيل في سن الرابعة عشرة، إلى انضمامها لمعهد الفنون المسرحية، ثم صعودها كنجمة مسرحية بارزة، وصولاً إلى إدارتها للمسرح القومي والحديث.
المحتوى والأسلوب
أسلوب سميحة أيوب في الكتاب يتميز بالسلاسة والصدق العاطفي، حيث تروي قصصها بمزيج من الحنين والفخر، دون أن تتجاهل لحظات التحدي والصعوبات. الكتاب ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو تأمل في الفن والحياة، حيث تتناول سميحة تجربتها مع المسرح كفضاء للإبداع والمقاومة الثقافية. تتحدث عن بداياتها في معهد الفنون المسرحية، حيث درست على يد زكي طليمات، أحد رواد المسرح المصري، وكيف شكّل ذلك وعيها الفني. كما تروي تفاصيل عن أعمالها المسرحية البارزة مثل كوبري الناموس والذباب لجان بول سارتر، التي أذهلت النقاد في مصر وخارجها، وكيف كانت شريكة في صياغة تاريخ المسرح المصري مع كبار المخرجين والمؤلفين مثل سعد الدين وهبة ويوسف وهبي.
رجاء النقاش، في مقدمته للكتاب، يسلط الضوء على التحديات الاجتماعية التي واجهتها سميحة أيوب في بداياتها، حيث كان التمثيل يُنظر إليه كمهنة غير مقبولة اجتماعيًا في مصر التقليدية، خاصة للنساء. يصف نقاش كيف تغلبت سميحة على هذه العقبات بموهبتها وإصرارها، مما جعلها رمزًا للتحدي والنجاح.
القيمة الفنية والثقافية
الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية، بل وثيقة تؤرخ لمرحلة مهمة في تاريخ الفن المصري. سميحة أيوب، التي شاركت في أكثر من 170 مسرحية، تقدم شهادة حية عن تطور المسرح المصري منذ منتصف القرن العشرين، متناولة تأثير رواد مثل زكي طليمات ويوسف وهبي، وكيف ساهمت هي نفسها في إعادة الانضباط للمسرح القومي خلال إدارتها له بين عامي 1975 و1989. كما تتطرق إلى تعاونها مع مخرجين بارزين مثل سعد أردش وكرم مطاوع، وتأثيرها في اكتشاف مواهب جديدة مثل عبد الرحمن أبو زهرة وشاكر عبد اللطيف.
الكتاب يعكس أيضًا رؤية سميحة للفن كرسالة تنوير، وليس مجرد ترفيه. تؤكد في مواضع عديدة على أهمية المطالعة وتطوير الذات للفنان، مشيرة إلى أن الفن يحمل مسؤولية ثقافية واجتماعية. هذا المنظور يجعل الكتاب مصدر إلهام للشباب الطامحين في احتراف التمثيل، حيث تقدم نصائح عملية حول صقل الموهبة والالتزام بالفن.
الجوانب الشخصية
من أكثر ما يميز الكتاب هو التوازن بين الجوانب الفنية والشخصية في حياة سميحة أيوب. تتحدث بصراحة عن زيجاتها الثلاث (من محسن سرحان، محمود مرسي، وسعد الدين وهبة)، وكيف أثرت هذه العلاقات على حياتها الفنية والشخصية. تصف سعد الدين وهبة بـ”حب العمر”، مشيرة إلى دعمه الكبير لها فنيًا وعاطفيًا، بينما تتناول تجربتها مع محسن سرحان بصراحة، موضحة الضغوط التي تعرضت لها. هذه الصراحة تضفي طابعًا إنسانيًا على الكتاب، مما يجعله قريبًا من القارئ.
النقاط الإيجابية
الأسلوب السردي: أسلوب سميحة أيوب يجمع بين البساطة والعمق، مما يجعل الكتاب سهل القراءة وممتعًا للجمهور العام ولعشاق المسرح على حد سواء.
القيمة التاريخية: يوفر الكتاب نظرة داخلية على تاريخ المسرح المصري، مما يجعله مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين بالفنون الأدائية.
الصدق والإلهام: صراحة سميحة في سرد تجاربها، سواء الإيجابية أو السلبية، تجعل الكتاب مصدر إلهام للأجيال الجديدة.
التنوع: يغطي الكتاب جوانب متعددة من حياتها، من الطفولة إلى النجومية، ومن العمل الفني إلى الإدارة المسرحية، مما يمنحه شمولية.
النقاط السلبية
قلة التفاصيل الزمنية: كما أشارت سميحة نفسها، الكتاب لا يعتمد على توثيق زمني دقيق، مما قد يُحبط القراء الذين يبحثون عن تسلسل زمني واضح للأحداث.
توقعات أعلى: بعض القراء، كما ورد في إحدى المراجعات على موقع Goodreads، توقعوا المزيد من التفاصيل عن إسهاماتها المسرحية، حيث شعروا أن الكتاب ركز أحيانًا على التجربة الحياتية أكثر من المذكرات الفنية.
غياب بعض التفاصيل الشخصية: بينما تتحدث سميحة بصراحة عن بعض جوانب حياتها، إلا أنها تتجنب الخوض في تفاصيل حساسة، مما قد يترك القارئ متشوقًا لمعرفة المزيد.
تأثير الكتاب
كتاب “ذكرياتي” ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو شهادة على إرث فنانة عاشت للفن وكرست حياتها له. الكتاب يعكس روح سميحة أيوب القوية، التي واجهت التحديات الاجتماعية والمهنية بعزيمة، وساهمت في رفع مكانة المسرح في الثقافة العربية. إدراج مسيرتها في منهج الصف السادس الابتدائي في مصر عام 2023 يؤكد تأثيرها كشخصية ثقافية وفنية مؤثرة، وقد عبرت سميحة عن سعادتها بهذا التكريم، معتبرة إياه دليلاً على أن “رحلتها لم تذهب هباء”.
الخاتمة
كتاب “ذكرياتي” لسميحة أيوب هو عمل يستحق القراءة، سواء لمحبي المسرح أو لمن يرغبون في استكشاف حياة واحدة من أعظم الفنانات العربيات. يجمع الكتاب بين الحنين، الإلهام، والتوثيق الثقافي، مقدمًا صورة حية عن مسيرة فنية استثنائية وعن امرأة تحدت المعايير لتصبح رمزًا للفن الراقي. رغم بعض النواقص، مثل قلة التفاصيل الزمنية، يظل الكتاب وثيقة ثمينة تُثري المكتبة العربية وتُخلّد إرث “سيدة المسرح العربي”.