مواضيع ذات صلة

قهقهة من السماء

حسين السنونه

في وسط المقهى يجلس رجل في الستين من العمر. صمت ثقيل يضرب بجذوره بين رواد المقهى. مساحات شاسعة من الجدب والفَقْدِ. صحراء جرداء ممتدة ماتت بها براعم الكلمات وانقطعت داخلها حبال الود، ونبتت بها أشجار السنط ووجع البعاد. الدقائق تمر مقتولة كسيحة سلحفائية الحركة حتى تخالها أزمانًا سحيقة. بركة ماء راكدة غرق بها الونس وطفا فوق سطحها الآسن كجثة نافقة.
فجأة تململ جسم هذا الرجل الستيني واهتز يمينًا ويسارًا، وانطلق في ضحك هستيري قوي ومتصل، حلَّقت ضحكاته الخضراء عاليًا في الفضاء تصدح كعصفور يغرد وتزهو بألقها كسرب من الفراشات الملونة. حتى أن نظارته سقطت على الأرض ولم ينتبه.
دارت الرؤوس واتجهت العيون إليه وإلى بعضها البعض، وتواصل الصمت ولكن لثوانٍ معدودة أعقبتها ضحكة تتلوها ضحكة، الجميع يضحك. أصبحت الضحكات مترابطة متساوية رجت أرض المقهى رجًا، واتحدت، حتى أصبحت ضحكة واحدة، صوتًا واحدًا، صدى واحدًا.
جاء البعض من الخارج فشارك الضاحكين ضحكتهم. تضخمت قوة الضحكة خرجت من المقهى إلى الشارع، فتوقف العابرون يشاركون بعضهم البعض، لكن الشباب العاطلين عن العمل خلقوا ضحكة مختلفة أكثر أناقة وسلاسة وقدرة على التعبير عن أحوالهم، فقد حصلوا على عمل وقرروا الزواج بأسرع وقت حتى تحصل الضحكات على الدفء الذي يساعد على الاستمرار دون توقف.
واصلت الضحكة التمدد، دخلت المحلات المجاورة والبيوت، ضحك الزوج مع زوجته، الحبيب مع حبيبته، صاحب البيت مع العاملة التي ضحكت حين شعرت بالإنصاف والاحترام بوصفها إنسانةً اضطرتها الظروف أن تكون عاملة منزل وتأتي من دولة بعيدة في المسافة والعادات والتقاليد.
كانت الضحكة تضوي في السماء وتلمع كقبسٍ من نور لتنير دهاليز الأرواح المظلمة العابسة التي أعيتها الكآبة دهرًا من الزمان، وبخطىً متعثرةٍ كانت تطرق أبواب السعادة وتحطم أقفال الفرح الصدئة في كل مكان وكأنها حبات مطر تتساقط على أرض جدباء تعاني الجدب والجفاف منذ سنين.
انتقلت الضحكة أكثر سرعة إلى المدن المجاورة، واتسعت أكثر وأكثر حتى أصبح الجميع يضحك، موظفو الحكومية أصبحوا ينجزون المعاملات بشكل قياسي، كل الأطباء والصيادلة والممرضين في المستشفيات أصبحوا يضحكون، فانعكس ذلك على المرضى الذين صاروا يتلقون العلاج بأسرع وقت دون مواعيد سنوية، والأدوية بأسعار رمزية، ويعطى كل مريض الدواء الذي يحتاجه دون زيادة تجارية، نزلاء السجون رجت غرفهم رجًا بالضحكات، عرفوا تهمهم وتم الحكم فيها دون تأخير بأي شكل من الأشكال.
سائقو التاكسي صاروا لا يأخذون زيادة ولم يعودوا بحاجة إلى أن يعتمدوا على عداداتهم الخربة أو الحلف كذبًا أنهم لا يأخذون زيادة بسبب زيادة سعر البنزين أو سعر الخبز.
انتقلت عدوى الضحكة كالنار في الهشيم وفعلت فعلتها في المطاعم ومن يرتادها، أصبحت نظيفة، لا تستخدم اللحوم المستوردة التي لا يعلم أحد مصدرها، المكتبات أصبحت تبيع أرقامًا مذهلة من الكتب التي تتناول الضحكة وأنواعها وفي أي الأوقات يفضل إطلاقها؛ ما بين الصباح والمساء والليل، والأوضاع المقترحة أثناءها، وكيفية التحكم في مستواها إذا كان المرء جالسًا لوحده أو مع ضيوف له، أو أثناء لقاء مسئول مهم في الدولة، وفوائدها على صحة المواطن والوطن وانعاش الاقتصاد والسياسة وقوة العملة المحلية في وجه العملات الخارجية.
وأخيرًا التقطت القنوات الفضائية الضحكة، لتصبح الشغل الشاغل لبرامجها القوية حتى استبدلت الكثير من مقدمي البرامج، اختارت وجوهًا قادرة على الضحك بكل ما تحمله من أحاسيس.
وفي اللحظة الحاسمة لاستمرار الضحك والقهقهة، خرج الرئيس من شرفة القصر سعيدًا منتشيًا كطاووس ملكي وهو يضحك ويضحك ويضحك، فاستمر الشعب في الضحك وأعضاء مجلس الشعب والقضاء والمحامون والجيش.
يقال إن الرجل الذي ضحك في المقهى سُئل لماذا ضحكت؟ ولماذا كان استمرارك في الضحك؟.. رد قائلاً وقد تهاوى فوق كرسيّه كجوال ثقيل من الملح بعد أن راح يلملم شظايا حلمه الجميل، المتكسِّر على أرض الواقع والذى لا يراه سواه: “صاحب المقهى قال لي: مساء الخير يا محترم. فشعرت أني مواطن عربي محترم”.