أمينة عباس – دمشق
يُسجَّل لأكاديمية دار الثقافة في دمشق، من خلال ندواتها التي تعقدها عادة ضمن مشروعها الذي بدأته منذ فترة بالتعريف بكتّاب غزة الشهداء، تسليطها الضوء على صناع الثقافة في فلسطين عامة، وغزة بشكل خاص، الذين شكلوا مأثرة فلسطينية جديدة، والذين من الصعب الإحاطة بهم في ندوة واحدة سبق أن أقامتها الأكاديمية، لتتبعها بندوة أخرى أقيمت يوم السبت 14/6 في مقر الأكاديمية، بإدارة الكاتب محمد حسين، الذي قدم للندوة قائلاً: “مهمة الكتاب اليوم توثيق ما يجري في غزة، فعلى مدى عقود طويلة من الزمن، يقدم العدو نفسه كضحية، والشعب الفلسطيني كجلاد”.
راوي غزة الأول
شارك في الندوة مدير الأكاديمية د. حسن حميد، والناقد د. ثائر عودة، والناقد أحمد هلال، وقد تنقلوا في مشاركاتهم بين أسماء تعرف عليها الحضور لأول مرة، ودهش لإنجازاتها الكثيرة التي كانت مغيبة عن الإعلام، ليكشف استشهادها عنها، ولذلك أتى حرص الأكاديمية على التعريف بهم وتوثيق مسيرتهم. ومن هؤلاء، الشاعر والروائي غريب عسقلاني، الذي استشهد أثناء غارة إسرائيلية على غزة عام 2022، وحدثنا عنه د. حسن حميد في مشاركته قائلاً: “لم ألتقِ غريب عسقلاني، ولكنني سمعت صوته، وسمع صوتي، ورأيته، ورآني حين كنت أشارك أدباء غزة مرة، وأدباء رام الله مرة أخرى، في الحديث عن أدبه، وبحضوره، عبر قنوات التواصل الاجتماعي، لكن تلك المشاركات كلها كانت أشبه بقبلة من وراء الزجاج”.
ينتمي أدب عسقلاني، كما جاء على لسان حميد، لذلك الأدب الفلسطيني القادم من وراء الأسوار، والغياب، والظلم، والشكوى، والذي أحب كتابته حميد، أمثال: إميل حبيبي، وتوفيق زياد، وغسان كنفاني، وغريب عسقلاني، باسمه الحركي: “اسم حركي للكاتب إبراهيم عبد الجبار الزنط، ابن مجدل عسقلان، المولود فيها سنة 1948، والمطرود منها، والذي تنقل بين مخيم الشاطئ الذي لجأ إليه، وبين غزة ومصر والأردن وسورية”. وليست مصادفة أن يتخير غريب عسقلاني هذا الاسم، ليغدو الناطق المفصح الكاشف عن نصوصه، وأحلامه، ورؤاه، والمعرّف بها، لأنّ في هذا الاسم توأمة لغربة الفلسطيني والمكان معًا. فحياة عسقلاني ملأى بالأوراق، والأخبار، والقصص، والروايات، وأحداث غزة وحادثاتها. فهو راوي غزة الأول، الذي كتب تاريخ أهلها وشواغلهم، ووصف صبرهم، ومقاومتهم، في حوالي عشرين رواية، وعشر مجموعات قصصية، وكتبت عن تجربته ثلاثة كتب نقدية، ودارت حول نصوصه عشرات الرسائل الجامعية”.
وما ميّز حديث حميد عن عسقلاني، تطرّقه إلى المستبطن من حياته: “وكلها حياة أسرار، ومفاجآت”. فأشار إلى أنه حينما توجه إلى الأردن، أصبح فدائيًا في أغوارها، لأنّ الإسرائيليين حالوا بينه وبين عودته إلى غزة، بعد احتلالهم لقطاعها عام 1967، وفي الأغوار، عاش مع رفاقه في مغارة محاذية لنهر الأردن، مارس فيها ما تعلمه من علومه الهندسية الزراعية، فحوّلها لقرية صغيرة خاف منها الإسرائيليون… فدمّروها! كما مرّ حميد على النساء اللواتي أحببنه: وجيدة الغجرية التي أحبته في مدينة الإسكندرية، ورشيدة راعية أغنامها التي أحبته في مدينة الرقة بسورية، التي عمل وعاش فيها، ليكون أحد المهندسين المشرفين على المشاريع الزراعية الحديثة بجانب سد الفرات.
حارس الذاكرة
واختار الناقد أحمد هلال الحديث عن عبد الكريم عبد الحشاش، الذي استشهد في الرابع والعشرين من تشرين الأول عام 2023، إثر غارة استهدفت منزله في غزة، حيث يقيم وعائلته، والذي وُصف بحارس الذاكرة وسادن التراث، حيث تفرغ للتراث الفلسطيني في سبيل إحيائه وتدوينه وكتابته، وقد أسبغت وزارة الثقافة في سورية عليه لقب سادن التراث، إدراكًا منه لأهمية التراث وتدوينه بوصفه أحد أشكال المقاومة الثقافية. لتفيض مدوّنته التراثية بما يزيد عن عشرين كتابًا، ومنها: “فنون الأدب والطرب عند قبائل النقب، الأمثال الليبية ونظائرها، قبائل وعشائر فلسطين، معجم الألفاظ المحكية، الأمثال الشعبية في الأمصار العربية، قضاء العرف والعادة، الأسرة في المثل الشعبي الفلسطيني والعربي”.
توقف هلال كذلك عند الحشاش الروائي، الذي في رصيده روايتان: “أرض القمر”، التي تتضمن سيرة فدائي كان حاضرًا فيها برمزيته وحله وترحاله:” دون أن تخلو الرواية من بعد جمالي ومعرفي. أما روايته الثانية، والتي حملت عنوان “النخلة العاقر”، فيقدّم فيها وثيقة حيّة عن فنون التعذيب لدى أجهزة العدو، لمن وقعوا في الأسر، وصمود المناضلين وصبرهم، وهي رواية مشبعة بأبعاد إنسانية ستنضاف إلى مدوّنة أدب الأسرى، ولعلها ستكون وثيقة حيّة عن سبل المقاومة، وكفاح الأسرى، وصمودهم، وإراداتهم، كلّ ذلك بغلالة إنسانية شفيفة، تستظهر أبعادهم ومواقفهم”.
وذكر هلال إن الحشاش تمكّن من تحقيق ما يربو عن عشرة آلاف مثل دوّنها في كتبه، لتصبح مرجعًا للأجيال الفلسطينية، وله مجموعة قصصية بعنوان “بصمة على الرمال”.
الكاتبة الفلسطينية
ولأن المرأة الفلسطينية تتقدّم الصفوف، وهي أحد أهم روافع العمل الوطني، حرصت الندوة على أن يكون لها حصة من المشاركات، حيث تناول د. ثائر عودة سيرة الروائية الشابة هبة محمد المدهون: “التي استشهدت مع زوجها وأطفالها الأربعة في تشرين عام 2024، وهي من مواليد مدينة غزة، حاصلة على شهادة الهندسة المعمارية من الجامعة الإسلامية في غزة، كانت موهوبة بالأشغال اليدوية، بالإضافة إلى نشاطها الأدبي، حيث صدرت لها رواية “فإذا هم خامدون” عام 2019، أهدتها لأخيها الذي استشهد قبل سنوات. كما نشرت ديوان شعر بعنوان “كوني عنقاء” عام 2021، الذي تضمّن قصائد تعكس تجربتها ومعاناتها، كما كتبت هبة عن الموت تحت القصف، والتزوج من البيوت، والعودة إلى الديار، وعبور الحدود”.
كما تحدث عودة عن ولاء جمعة الإفرنجي، التي استشهدت برفقة زوجها في كانون الثاني من عام 2024، خلال قصف صهيوني استهدف منزلًا نزحت إليه في مخيم النصيرات بمدينة غزة: “بدأت رحلتها مع الكتابة بإصدار رواية “مزاج مرسل”، قبل أن تنتقل من الكتابة على الورقة إلى الكتابة على الحجارة والخشب، وتحويلها إلى سلاسل وخواتم،
وقبيل استشهادها بوقت قصير، نشرت فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تقول فيه: “أنا ولاء من غزة، النصيرات، فقدنا منذ بدء الحرب كل شيء، صباحاتنا التي ألفناها، ومكاننا، وتفاصيلنا، وها نحن نجري في البحث عن العظام والعلاج، سؤالي هو: هل في الحرب تتوقف غاية وجودنا في السعي والإنجاز كغزيين؟ لا أريد أن أتوقف، ولكن هناك حافزية تجعلني أنجز وأسعى ولا أتوقف”.
وكان عودة قد بدأ حديثه بالتأكيد على أن الإبادة الثقافية في غزة تعني اغتيال القلم الذي يوثّق جرائم الاحتلال ويسجل البعد الثقافي الإنساني الذي تركز الصهيونية على اغتياله، وترى في الأدباء والكتاب والفنانين خطراً لا يقل عن خطر المقاوم، مدركة الدور الخطير الذي يقوم به المثقف الفلسطيني المشتبك في تمتين الوعي ومواجهة السردية الصهيونية التي تحاول أن تمحو السردية الفلسطينية الحقيقية، ومواجهة المثقف للوعي الزائف والادعاء الصهيوني، مشيراً إلى أن السياسة الإجرامية التي ينتهجها الاحتلال ضد الثقافة والمثقفين في غزة تتمثل في طمس الهوية الفلسطينية والذاكرة الجماعية، واستهداف أصحاب الأقلام الحرة التي تمتلك القدرة على صنع تغيير الوعي والدفع قدماً بالمقاومة من أجل العدالة والخلاص من الاحتلال، توجب علينا وعلى كل مثقف حر إعلاء أصوات أولئك الذين جاهروا ويجاهرون بأفكارهم، وكتبوا ويكتبون بالحبر والدم وجعهم ووضع الناس في غزة، وظلوا يكتبون حتى الدقيقة الأخيرة قبيل استشهادهم ليخبروا العالم أن أصحاب القلم لا يموتون، وأن غزة تردّ على الإبادة بالكتابة، وستظل نصوصهم تتردد وترددها الألسن عبر الزمن.