مواضيع ذات صلة

الثقافة الأمازيغية

بقلم: محمد تابت
في أعماق جبال الأطلس، وفي سهول سوس، وعلى ضفاف المتوسط، تنبعث الثقافة الأمازيغية كجذورٍ ضاربة في أرض المغرب، شاهدة على تاريخٍ عريق لم يكتب بالحبر، بل بالنقوش، بالأغاني، بالحكايات، وبالحرف الذي قاوم الصمت: تيفيناغ.


ليست الثقافة الأمازيغية طيفاً من الماضي يُعرض في المتاحف، بل هي نبض حاضرٍ متجدد، يعبر الأزمنة وهو محمّل بنبض الأرض وذاكرة الناس. إنها ليست زخارف على الأقمشة، أو أنغاماً تملأ فضاء الأعراس فقط، بل منظومة وجود، وامتدادٌ روحيٌّ لشعبٍ عرف كيف يحمي ذاته من الانمحاء دون أن يُغلق أبواب الحوار مع العالم. الثقافة الأمازيغية ليست “إرثاً”، بل كيان حيّ يتنفس عبر الكلمات، والإيقاعات، والرموز، ويعيد تعريف معنى الهوية في زمن تشابهت فيه الأصوات وتماهت الوجوه.
في حكايات الجدّات، تلك التي تُروى عند مهبّ الريح، تستتر أزمنةٌ لا توثّقها الكتب. في الزرابي المنسوجة بخيوط الصبر، تقرأ كتباً صامتة عن الجمال والرمز والأسطورة. وفي الأغاني التي تتردد بين الجبال، تسمع صدى الإنسان في بحثه عن العدالة، عن الحب، عن الاستمرار. تتجلى هذه الثقافة في أشياء تبدو بسيطة، لكنها محمّلة بمجازات كثيفة: لون الحناء، شكل الوشم، إيقاع الدفّ، حركة الأقدام في رقصة “أحيدوس”، وحتى طريقة تحميص الشعير أو تشكيل الخبز على الحجارة. كل تفصيلة هي كتاب.


لقد استطاعت هذه الثقافة، رغم سنوات التهميش والصمت الطويل، أن تُعلن حضورها بلغة فريدة، لا تتوسل الشفقة ولا تستجدي الاعتراف، بل تفرض نفسها بقوة الجمال، وقوة الحياة. وما أن فتحت أمامها أبواب الترسيم والاعتراف الرسمي، حتى بدأت تُعيد تشكيل ذاتها بحيوية مثيرة للإعجاب: في المدارس، في الإعلام، في المهرجانات، في المسرح، وفي السينما. لم تكن العودة إلى العلن مجرد ترميم لما مضى، بل فعل خلق جديد، جمع بين الجذور والتحوّلات، بين الماضي الذي لا يُنسى، والحاضر الذي يطلب المعنى.
وإذا كانت بعض الثقافات تختنق عندما تخرج من محيطها الأصلي، فإن الثقافة الأمازيغية تثبت قدرتها على العيش في العالم، دون أن تتنازل عن أصالتها. في الأغنية الأمازيغية الحديثة، نسمع همس الأجداد ممزوجًا بنبض المعاصرة. وفي التصميمات الجديدة لرموز تيفيناغ، نرى كيف يمكن للهوية أن تكون أنيقة، لا عنيفة؛ مرنة، لا مائعة. الأمازيغية تحيا اليوم كما لم تحيا من قبل، ليس كتمرد، بل كتصالح مع الذات.
وهناك اليوم جيل جديد، لم يعش زمن الإقصاء، لكنه يحمل في داخله رغبة عميقة في الفهم، في الحفظ، وفي التعبير. جيل يكتب بالأمازيغية، يغني بها، يفكر بها، ويطرح أسئلته الوجودية عبر مفرداتها. هذا الجيل لا يضع الأمازيغية على الهامش، بل في صلب مشروعه الثقافي والإنساني. لأنه يعلم أن الهوية ليست امتلاكًا للقديم، بل القدرة على ابتكار معنى جديد له، دون خيانة روحه.
في هذا السياق، تبدو الثقافة الأمازيغية كنبع لا ينضب، يشرب منه كل من يشعر بالعطش إلى الانتماء، وإلى الجمال البسيط، العميق، الهادئ. هي ليست ضجيجاً ولا شعاراً، بل نسق من العيش، وفن من فنون النجاة، وطريقة في مقاومة النسيان. كل بيت أمازيغي هو متحف صغير، كل فلاح أمازيغي هو فيلسوف خفيّ، وكل جدّة تحمل في صوتها مكتبة شفوية لا تقدر بثمن.
إن إنصاف الثقافة الأمازيغية ليس مجرد اعتراف قانوني أو بروتوكولي، بل هو فعل حب. هو اختيار لعدم فقدان جزء من الذات، في عالم يغرينا أن نكون جميعاً متشابهين. إنه تمسك بجزء من الحكاية، تلك التي تروى حين تُطفأ الأضواء، وتبقى النجوم وحدها تصغي.
في الثقافة الأمازيغية، لا نجد فقط شعبًا يحكي تاريخه، بل تاريخًا يحافظ على شعبه.