بقلم: هدى بن الغالية
في بلد كالمغرب، لا يمكن الحديث عن الثقافة دون الوقوف عند التعدد اللغوي الذي يميز هويته الحضارية. من العربية الفصحى إلى الأمازيغية بكل تفرعاتها، مرورا بالحسانية والفرنسية، ووصولا إلى اللغة الإنجليزية التي تفرض حضورها المتزايد في الآونة الأخيرة، يجد المواطن المغربي نفسه محاطًا بفسيفساء لغوية قلّ نظيرها في العالم العربي. هذا التعدد لا يُعتبر فقط معطى لغويًا بحتًا، بل هو أيضًا مرآة تعكس تاريخًا طويلًا من التعايش بين مكونات ثقافية مختلفة، وسيرورة مستمرة نحو بلورة هوية مغربية غنية ومعقدة في آن.
الأمازيغية، التي طالما شكلت جذورًا صلبة للثقافة المغربية، استعادت مكانتها الدستورية كلغة رسمية إلى جانب العربية منذ سنة 2011، في خطوة وُصفت بالتاريخية. لكن رغم هذا الاعتراف القانوني، ما زالت تواجه تحديات حقيقية على مستوى التفعيل في المؤسسات التعليمية والإدارية. من جهة أخرى، تواصل اللغة العربية الفصحى لعب دورها المحوري في الإعلام والتعليم والقانون، وإنْ كانت في بعض المجالات، خصوصًا التقنية والاقتصادية، تعاني منافسة محتدمة من اللغة الفرنسية، الموروثة عن المرحلة الاستعمارية، والتي لا تزال تحتفظ بمكانة وازنة، خصوصًا في مجالات المال والأعمال والطب والبحث العلمي.
ومع انفتاح المغرب على العالم، تبرز اللغة الإنجليزية كمنافس قوي للفرنسية، خاصة في أوساط الشباب والباحثين. فالكثير من الجامعات بدأت تعتمد الإنجليزية كلغة تدريس، بينما تُشجع المبادرات الرسمية على تعزيز حضورها في المدارس العمومية. هذا التعدد اللغوي، رغم ما يحمله من ثراء ثقافي، لا يخلو من إشكاليات واقعية: كيف يمكن ضمان التكافؤ بين هذه اللغات دون تهميش أي منها؟ كيف نُحافظ على الانسجام المجتمعي في ظل تباين الألسن؟ وهل سيستطيع المغرب تجاوز النظرة الفئوية إلى اللغات ليرى فيها رافعة للتنمية لا سببًا للتفرقة؟
الجواب، على ما يبدو، يكمن في إيجاد نموذج لغوي مغربي مرن، قائم على التعدد الإيجابي لا التصادم، وعلى التوظيف الذكي لكل لغة حسب مجالها الطبيعي، دون أن يعني ذلك التخلي عن دعم اللغات الوطنية أو التماهي مع لغات القوى المهيمنة. فالتعدد اللغوي ليس عائقًا إذا حُسن تدبيره، بل هو ثروة وطنية ومورد حضاري يمكن أن يجعل من المغرب نقطة التقاء فريدة بين إفريقيا والعالم العربي وأوروبا، بل وحتى الفضاء الأنجلوساكسوني. وفي زمن تسارع العولمة، لا بد من الاعتراف بأن لغات المغرب ليست مجرد أدوات تواصل، بل هي روح الأمة، وعنوان انفتاحها، وشهادة على قدرتها الأزلية على العيش المشترك.