بقلم : دعاء سميح
في المدن لا تصمت الجدران أبدًا حتى وإن بدت ساكنة فكل جدار يحمل أثر الذين مروا والذين ما زالوا يعيشون بين نبض الحارات والأزقة الجدران ليست فقط طينًا أو إسمنتًا بل هي ذاكرة مشتركة تروي حكايات الوجوه التي لامستها وأصوات الخطى التي عبرت بجانبها في مراكش الجدران حمراء بلون الغروب وبصمة الشمس وحرارة الأرض تمشي بينها فتشعر أنها تحتفظ برائحة الزمن القديم كأن كل حائط هو صفحة من كتاب مفتوح على سيرة الناس والأشياء من النقوش إلى ظلال الحرفيين إلى بقايا كلمات معلقة في الهواء
في شفشاون الأمر مختلف تمامًا الجدران هناك مكسوة بزرقة هادئة تطفئ ضجيج العالم وتغمر العين بشيء من الطمأنينة الأزرق فيها ليس مجرد لون بل إحساس عميق يشبه دعوة للتأمل والمصالحة مع الذات الجدران تهمس هناك ولا تصرخ تترك للمارين عليها أثرًا ناعمًا يزرع فيهم الرغبة في التمهل والإنصات ربما لهذا السبب تبقى المدينة مكانًا يبحث فيه الناس عن أنفسهم في انعكاس الألوان
أما الدار البيضاء فاسمها يخبرك بلونها لكنها ليست بيضاء فقط بل متشابكة تتغير بين حي وآخر وتتحول من شارع لآخر الجدران فيها تتحدث بصوت العصر تسابق الوقت وتعكس نبض المدينة المتعبة الجدران البيضاء أحيانًا تخفي وجعًا داخليًا أو رغبة عارمة في الانطلاق رغم الضجيج والأعباء وفي الأزقة القديمة قد تلمح جدرانًا صامتة تشبه العيون التي رأت كل شيء وفضلت أن تسكت لكنها لا تزال تحلم برسمة صغيرة تعيد لها الحياة
في فاس الجدران تحكي تاريخًا طويلًا فيها من الجمال ما يكفي لتجعلك تتوقف دون وعي وتحدق كأنك تسمع صدى العصور القديمة الجدران تتكلم لغة الأندلس وتحتفظ بأدعية الصالحين ونقوش العارفين بينما في طنجة يمتزج كل شيء الجدران تتحدث هناك بلغات مختلفة تحكي قصص بحارة ومهاجرين وشعراء وعيون ظلت تحدق في الأفق منتظرة شيئًا لا يأتي
ثم هناك الجدران التي لا يراها أحد في مدن الصفيح والأحياء المنسية هناك حيث لا طلاء يغطي الحيطان ولا زخرفة تزينها لكنها صادقة جدًا تحكي الواقع كما هو دون تجميل أو رتوش تجد فيها قلوبًا مرسومة بأصابع أطفال ورسائل حب محفورة بالأظافر كأن الإنسان يحتاج دائمًا إلى أن يترك أثرًا على جدار مهما كان هشًا أو مكسورًا
هكذا تبدو لنا الجدران ليست فقط بناءً يحيط بنا بل روح المدن التي نحيا فيها كل مدينة تخبرك عن نفسها من خلال جدرانها من خلال ما كُتب عليها وما سُكت عنه وما حُفر سرًا أو علنًا لهذا حين تمشي في المدن لا تنظر أمامك فقط بل انظر إلى الجدران فهي تحكي كل ما عجز الناس عن قوله بالكلمات .
التعدد اللغوي في المغرب: غنى ثقافي أم مفترق هوياتي؟”