أمينة عباس- دمشق
يعد كتاب “محمود درويش: الطروادي الأخير”، تقديم وتحرير أ. سعيد البرغوثي، والصادر حديثًا عن دار كنعان بدمشق، والذي يضم مجموعة من الحوارات التي أُجريت مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وثيقة تلخّص مسيرة درويش الإنسان والشاعر والمناضل، وكان جمعها في كتاب قد احتاج من محررها أ. سعيد البرغوثي ثلاث سنوات وأكثر والذي يحدثنا قائلاً : “الحوار مع مفكر أو شاعر أو روائي يُنشر عادة في جريدة أو مجلة قد تندثر، لذلك قضيت طوال هذه المدة في جمع الحوارات والاشتغال عليها بتبويبها، كما أرسلت المخطوط إلى الناقد المعروف فيصل درّاج، الذي عاش مع محمود درويش السنوات الست الأخيرة من حياته، ليقرّر نشره أو عدم النشر، وأسعدني أنه كتب لي:’إن كتاب الطروادي الأخير، الذي جمع جملة من الحوارات مع محمود درويش، هو الأفضل في مجاله على الإطلاق؛ ففي هذا الحوار الطويل قدّم درويش تصوراته عن الثقافة الوطنية والسياسية، وعن دلالة الشعر وعمله فيه، وذلك في لغة مركّبة عميقة، شعرها نثر، ونثرها شعر’، وهذه شهادة كبيرة من قامة ثقافية كبيرة”.
توثيقًا لبرهتين
ويضيف البرغوثي قائلاً: “في حواراته الصحفية، لا يتوقف صاحب الجدارية عند حدود الشاعرية، بل يتعداها إلى الانخراط في الثورة ونظريتها، صاعدًا سلّم تفاصيل هذه الصيرورة بشكل يتساير مع البعد الشعري، والحوارات في هذا السياق تعد توثيقًا لبرهتين: برهة درويش الخاصة، وبرهة القضية الفلسطينية، كما يظهر فيها درويش العاشق والمفكر والفيلسوف. كما تُظهر تلك الحوارات أن غنى تجربته الشعرية نابع من بصيرة ثاقبة، مصقولة بجوهر ثقافي كوني، يصهر المأساة فيها، ويتقمصها حينًا، ويتجاوزها حينًا آخر، ويعيد صياغتها بعاطفة مشبوبة، وعقل نهم لا يرتوي أبدًا”.

الحوار الذي لا ينتهي
وعن الكتاب يقول د. فيصل درّاج: “هذا كتاب عن بدايات درويش ونهاياته وما بينهما، يحتاجه قرّاء الشعر، ودارسو الشعر العربي الحديث، ومتأمّلو الأقدار الفلسطينية، وهؤلاء الذين يعقدون مقارنة بين المراحل الإبداعية المختلفة للشاعر الفلسطيني، ومقارنة أخرى، أكثر تعقيدًا، بين تجربته الشعرية وتجارب آخرين، من شعراء عرب وشعراء لغات أخرى أيضًا”.
وتحت عنوان “محمود درويش: الحوار الذي لا ينتهي” كتب درّاج على غلاف الكتاب الأخير: “كان في مسار محمود درويش الشعري حوارات لا تنتهي، حاور القرية التي وُلِد فيها واندرست، وحاور روحه التي عشقت الوطن، ومنفاه، وأمّه وأباه، وأصدقاء رحلوا، وحاور الصور الشعرية وخارجه. وهو موضوع هذا الكتاب، باجتهاد لا اقتصاد فيه، وحاور نقّادًا وصحفيين وأصدقاء، وكان موضوع حواره ما عاشه في الشعر وخارجه، فبدأ حواره الشعري مع رومانسيين سبقوه، ووقف أمام قصيدة الغزل العربية القديمة واستعاض عنها بأخرى يعترف بها ويتجاوزها، وتأمل المعلّقات الموروثة وأضاف إليها معلقة خاصة به، وحاور وهو ينسج فضاءه الشعري الرحيب: اللاجئ، والمقاتل، والشهيد، والشريد، ولعل هذا الحوار الذي لا ينتهي، هو الذي أفضى به إلى قصيدة كونية، تتجاوز الجغرافيا والتاريخ، وتتّكئ على روح إنسانية، لم ينطلق في نسيجه الشعري المتفرّد من المتلقي، ولا من القارئ الجاهز، ولا من جماهيرية الشعر، بل من متطلبات الشعر، محقّقًا صيغة غريبة تُصالح بين جمالية الشعر وتحافظ على مقامه وجمهوره العام، وهذا التميّز، الذي لازم شاعرًا لا يشبه غيره، هو ما جعل درويش ينفر من مصطلحات رائجة: القصيدة الجماهيرية، الشعر التحريضي، شاعر المقاومة… كما لو كان يتعامل مع الشعر من داخله، زاهدًا بالتصفيق”.

أول حوار
بدأ الكتاب بحوار أجراه الناقد اللبناني محمد دكروب مع درويش بعد خروجه من فلسطين إلى موسكو، وهو أول حوار معه في الصحافة العربية، ونُشر في مجلة الطريق عام 1968، وفيه اعترف أن ديوانه الأول المطبوع عصافير بلا أجنحة، الذي صدر عام 1960، لا يستحق الوقوف عنده، وكان تعبيرًا عن محاولات غير متبلورة، أما الديوان الثاني “أوراق الزيتون، الصادر عام 1964، فيعتبره البداية الجادة في الطريق الذي يواصل السير عليه، لأن الطابع العام المميز لقصائده هو الانتقال من مرحلة الحزن والشكوى إلى مرحلة الغضب والتحدي، والتحام القضية الذاتية بالقضية العامة، فتشيع في جو الديوان رائحة الريف، وألم الناس، والتغني بالأرض والوطن، والكفاح، والإصرار على رفض الواقع.
وفي الحوار، تحدث أيضًا عن شعر المقاومة كما يفهمه: “تعبير عن رفض الأمر الواقع وضرورة تغييره، وهو بطبيعته شعر ثوري، وكون هذا الشعر جماهيريًا قد يهلك أشباه الشعراء فنيًا، عندما تصبح النية الطيبة والمباشرة الخطابية الرنانة هي العناصر الأساسية في شعرهم حيث اللعبة الفنية في شعر المقاومة تصبح أكثر انفضاحًا، وعلى الشاعر أن يتداخل مع الواقع، متحررًا من الهجاء والخطابة المباشرين.. وأرى أن من أنقى ميزات شعر المقاومة الصفاء الإنساني الشامل، فصرخة الإنسان المضطهد المقاوِم في أي مكان هي صرخة إنسانية. ويتمتع شعر المقاومة بحساسية شديدة للتاريخ، كجزء من تمسّكه بجذور عميقة تعينه على الصمود واحتقار الظلم الطارئ أمام جبروت التاريخ”.
لست راضيًا عن نفسي
خُتم الكتاب -الذي تخلله مجموعة من الحوارات – بآخر حوار أجراه معه د. فيصل درّاج، ونُشر في جريدة النهار اللبنانية عام 2008، وفيه عرّف درويش القصيدة: “رمية نرد على بقعة من ظلام – الحظ نصيب، والموهبة إذ تجتهد – لست راضيًا عن نفسي، ولا أعرف إن كنت سأرضى عنها ذات يوم، الرضا هو البلادة الباحثة عن منفعة، والإبداع هو القلق المتجدّد، وأكثر ما أعجب من هؤلاء الذين ينشرون الرضا لمناسبة ولغير مناسبة”.