بقلم : هدى بن الغالية.
في الأزمنة المظلمة لا تُطفأ المصابيح فقط، بل تُصادَر الألوان وتُمنع الأغاني ويُراقَب الرقص. القمع لا يكتفي بتقييد الجسد، بل يسعى إلى كسر الروح، إلى إفراغ الحياة من معناها، من بهجتها. هنا، يصبح الفن — بكل أشكاله — أكثر من مجرد تعبير، يصبح موقفًا، مقاومة صامتة أو صارخة، جمالًا ينبت بين الركام ويعلن: “نحن هنا، ما زلنا نحلم”. عبر التاريخ، كان الفن أحد أعنف أشكال المقاومة وأكثرها فاعلية، لأنه يتسلل إلى الوجدان، يحفر في الذاكرة، ويزرع الأمل في زمن الخوف.
الفن المقاوم ليس ظاهرة حديثة. في أثينا القديمة، حين كانت الفلسفة تتقاطع مع السياسة والمسرح مع النقد الاجتماعي، لم تكن التراجيديا اليونانية سوى مرآة للمدينة، وشكلًا من أشكال المحاسبة العامة. في القرون الوسطى، ووسط سلطة الكنيسة، استخدم كثير من الرسامين الرموز الدينية لتسريب رؤى إنسانية واحتجاجات مستترة. وفي زمن الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، صار الفن واحدًا من أبرز جبهات الصراع بين الحرية والسيطرة: من صور “بيكاسو” في لوحة “غرنيكا” التي جسّدت رعب الحرب الأهلية الإسبانية، إلى أشعار “لوركا” التي أُحرقت مع جسده، ومن موسيقى الجاز التي قاومت التمييز العنصري في أمريكا، إلى المسرح في جنوب إفريقيا الذي واجه الأبارتايد بالكلمة والجسد.
الفلاسفة بدورهم لم يغفلوا عن هذه القوة العجيبة التي يحملها الفن. الفيلسوف الألماني هربرت ماركوزه، أحد أبرز وجوه مدرسة فرانكفورت، رأى في الجمال مساحة للتحرر، لأنه يكسر العادي والمألوف، ويتيح للإنسان أن يتخيّل عالمًا آخر ممكنًا. يقول ماركوزه إن الفن يحمل “وعدًا بالسعادة”، لكنه أيضًا “ادعاء ضد العالم الواقعي”، لأنه يعبّر عمّا يمكن أن يكون، لا عمّا هو كائن فقط. أما أدورنو، فقد شدد على أن الفن الحقيقي لا يمكن أن يكون مريحًا أو تزيينيًا في زمن القمع، بل يجب أن يكون قلقًا، متوترًا، صادمًا أحيانًا، لأنه وحده القادر على زعزعة بنية الاستبداد من داخلها.
ليس الفن مقاومة فقط لأنه يقول شيئًا، بل لأنه يقول ذلك بطريقة مختلفة. السلطة تعرف كيف تواجه الشعارات والخطابات السياسية، لكنها غالبًا ما تعجز أمام لوحة أو قصيدة أو رقصة، لأنها لا تستطيع الإمساك الكامل بالمعنى، ولا يمكنها احتكار التأويل. الفن يفتح باب التأمل، بينما السلطة تريد إغلاق الأفق. الفن يحرّض على الأسئلة، بينما القمع يقوم على الطاعة. الفن يُشعِر الإنسان بفرادته وبكرامته، بينما الاستبداد يريد أن يُذيب الجميع في جماعة واحدة، بهوية واحدة، برأي واحد.
في العالم العربي، يمكن تتبع هذا الحضور القوي للفن المقاوم في أكثر من محطة. في فلسطين، لم يكن الغناء الشعبي، أو الجداريات، أو القصائد مجرد أدوات تعبير، بل وسائل نضال حقيقية. “درويش” كتب كي لا تُمحى الذاكرة، و”غسان كنفاني” روى الحكاية كي لا تموت الرواية، و”ناجي العلي” رسم وجه القهر في كل تفصيلة من تفاصيل “حنظلة”. في لبنان، صعد صوت “فيروز” من بين الأنقاض، ليس كترف غنائي، بل كإصرار على الحياة. في العراق وسوريا، قاومت المسرحيات واللوحات والأغاني رعب الدكتاتوريات والحروب، وأرّخت لوجع الإنسان العادي حين يضيع بين فوهة البندقية وغياب العدالة.
لكن هذه العلاقة بين الفن والقمع ليست دائمًا مباشرة أو رومانسية. أحيانًا يُستعمل الفن كأداة بيد السلطة نفسها: تزيّن به وجهها، تطبع به دعايتها، تشتري به المثقفين. لذلك، ليست كل أغنية مقاومة، ولا كل شاعر مناضل. التمييز يكمن في الموقف، في النبرة، في السياق. الفن المقاوم لا يهادن، لا يجمّل القبح، بل يكشفه. لا يبيع الأمل الزائف، بل يخلق معنى في قلب العتمة.
ومع دخولنا عصر التكنولوجيا والرقمنة، تغيّرت أشكال الفن وأدواته، لكن لم تتغير وظيفته الجوهرية. صارت الصورة تنتقل بلحظة، والموسيقى تُنتج وتُشارك بكبسة زر، والمسرح يمكن أن يُبث مباشرة من زنزانة أو مخيم. وهذا منح الفن المقاوم قوة جديدة، لكنه حمّله أيضًا مسؤولية أكبر. ففي زمن التضليل البصري، والحقائق المصنعة، والبروباغندا الرقمية، صار لزامًا على الفن أن يستعيد أصالته، أن يكون صادقًا في بحثه عن الإنسان وسط الضجيج.
الفن لا يغيّر العالم بشكل مباشر، لكنه يغيّر الذين يغيرونه. يعطيهم لغة، يمنحهم خيالًا، يجعلهم يؤمنون بأن ما يعيشونه ليس قدرًا، بل مرحلة يمكن تجاوزها. الجمال لا يعني الهروب من الواقع، بل التسلّح بحساسيّة جديدة لفهمه، وتجاوزه، وربما إعادة صياغته من جديد. حين يغني فتى في حيّ محاصر، أو ترسم فتاة جدارية على جدار مهدد بالهدم، أو يكتب سجين رواية على ورق مهرب، فإنهم لا ينتجون فنًا فحسب، بل يصنعون مقاومة ناعمة، لكنها عميقة، طويلة النفس، لا تكلّ ولا تستسلم.
يبقى السؤال: هل تخاف السلطة من الفن؟ الجواب نعم، لأنها لا تستطيع ترويضه بالكامل. الفن يعيش على الهامش، ينمو في الصدوع، ويتغذّى على التوق إلى الحرية. ومهما حاول القمع أن يصادره أو يكممه، فإن الجمال سيجد طريقه، كما تنمو الزهرة بين الصخور، عنيدة، ومضيئة، وفادحة بالأمل.