بقلم: آية الحمري
عند عتبة جبال الأطلس الكبير، حيث تتعانق السماء مع المرتفعات، وتنساب القرى كحبات عقيق على جبين الطبيعة، تنتصب “قصبة تلوات” كشاهد على حقبة تاريخية غنية، ومَعلمٍ معماري لا يزال يقاوم النسيان. هناك، على الطريق الرابطة بين مراكش وورزازات، لا يملك الزائر إلا أن يتوقف أمام هذه القلعة الطينية الصامتة، يتأمل تفاصيلها التي نحتها الإنسان والطبيعة، ويسأل نفسه: لماذا تترك بعض الكنوز لتتآكل على مهل ؟
ليست تلوات مجرد قرية أمازيغية في قلب الجبال، بل كانت على مرّ التاريخ ممرا استراتيجيا يربط شمال المغرب بجنوبه، ومفترق طرق للقوافل والتجار. غير أن حضورها تحوّل بشكل جذري في مطلع القرن العشرين، عندما قرر القائد التهامي الكلاوي بناء قصبته الشهيرة بها، معلنًا انطلاق فصل جديد من تاريخ المكان.
التهامي الكلاوي، الرجل القوي في ظل الحماية الفرنسية، لم يكن زعيمًا محليًا فقط، بل شخصية مركزيّة أثارت الكثير من الجدل؛ فقد جمع بين الولاء لفرنسا والهيمنة على الجنوب، وبين البذخ السياسي والفخامة العمرانية. أراد قصبة تلوات أن تكون صورة لعظمته ومقرًا شتويًا له ولعائلته، فاستقدم أمهر الحرفيين من فاس ومراكش، ليحول البنية الطينية إلى تحفة فنية تنطق بالسلطة والرقي.
إن ما يميّز قصبة تلوات ليس حجمها فقط، بل تناغم عناصرها. فالقصبة مبنية من الطين، لكنها تحمل في طياتها رموزًا عمرانية غنية: أبواب شاهقة من الخشب المنحوت، سقوف منقوشة بالزخارف الجبسية المتقنة، زليج فاسي يعكس الضوء، ونوافذ تتنفس منها القصبة وتراقب من خلالها الزمن.
تنقسم القصبة إلى عدة طوابق وأجنحة، وتضم قاعات استقبال فسيحة، صالات اجتماعات، غرف نوم، ومخازن، كلها مرتبة بدقة هندسية. حتى صمت الجدران يبدو ناطقًا، وكأنها تحفظ أسرار الاجتماعات السياسية والتحالفات التي كانت تُعقد بين جدرانها.
عقب استقلال المغرب سنة 1956، فقدت قصبة تلوات وظيفتها السياسية، ومع تراجع سلطة عائلة الكلاوي، انسحب البريق تدريجيا من المكان. تُركت القصبة في عزلة، تنهشها عوامل الزمن والإهمال، رغم أنها صُنّفت لاحقًا كتراث وطني من طرف وزارة الثقافة.
لم تنجح محاولات الترميم المتقطعة في إنقاذها من التدهور، كما لم تُدمج بعد بجدّية في المسارات السياحية الكبرى، رغم أنها تقع على طريق دولية يرتادها آلاف الزوار. ورغم ذلك، لا تزال القصبة تجذب عشّاق التاريخ، المصورين، والباحثين عن الجمال المخفي وسط الجبال.