بقلم: آية الحمري
في الزاوية الأكثر شاعرية من عاصمة الأنوار، حيث يلتقي نهر أبي رقراق بالمحيط الأطلسي، تخبئ قصبة الأوداية متحفًا استثنائيًا خلف أسوارها العتيقة. إنه متحف الأوداية، الذي لا يُشبه باقي المتاحف، لأنه لا يعرض فقط قطعًا أثرية، بل يعرض ذاكرة.
تم افتتاح هذا المتحف سنة 1915، خلال عهد الحماية الفرنسية، ليكون أول متحف وطني يعنى بالحرف والفنون الزخرفية المغربية. واليوم، تحت إشراف وزارة الثقافة، يحتضن المتحف مجموعات فنية نادرة من مختلف جهات المغرب، شاهدة على غنى التنوع الثقافي والحرفي للبلاد.
يقع المتحف داخل جناح من قصر شُيّد في أواخر القرن السابع عشر، خلال حكم السلطان المولى إسماعيل، ليكون مقر إقامة ملكية مؤقتة عند زيارته للرباط. يتميز المعمار المغربي في القصر بجمالية الزليج الفاسي، والأقواس الرخامية، والسقوف الخشبية المحفورة يدويًا، في لوحة عمرانية تحفظ هوية المكان.
ويحيط بالمتحف حديقة أندلسية أنشئت ما بين 1915 و1918، بتصميم المهندس الفرنسي موريس ترانشان دو لونيل. الحديقة مستلهمة من رياضات غرناطة وفاس، وتجمع بين النارنج، وأحواض المياه، والظل الهادئ في فسحة طبيعية نادرة.
يضم المتحف مجموعة من الحلي والمجوهرات الأمازيغية والفاسية، تُظهر دقة الصياغة والرمزية الثقافية عبر العصور. كما يحتفظ بقطع من اللباس التقليدي المغربي، مثل القفطان الرباطي المطرز يدويًا، والبرانس الجبلية، والنقوش الحريرية.
وفي جناح آخر، تُعرض آلات موسيقية مثل الرباب والعود والناي، إلى جانب أوانٍ فخارية وخشبية ومسكوكات ومخطوطات ترجع إلى القرنين 18 و19. كل قطعة ليست جامدة، بل حكاية امرأة، أو حرفي، أو موسيقي نحت هويته بصمت.
بعيدًا عن صخب المدينة، يتحول المتحف إلى لحظة تأمل. ضوء الشمس الذي يتسلل من النوافذ، وصمت القاعات، ورائحة الزليج المبتل، تمنح الزائر تجربة وجدانية تتجاوز مجرد الفرجة البصرية. إنّه متحف يهمس بدل أن يتكلم، ويدعوك إلى أن تُبطئ لتسمع.
تشرف وزارة الثقافة المغربية حاليًا على مشروع لإعادة تهيئة المتحف، ليتحول إلى متحف القفطان والحلي المغربي (Musée du Caftan et de la Parure)، مما يعكس وعيًا بأهمية تحويل التراث إلى مرآة معاصرة للهوية المغربية المتعددة.
وقد أكدت منظمة اليونسكو، التي صنفت القصبة ضمن التراث العالمي، أن هذا الفضاء يمثل “نموذجًا نادرًا على استمرارية التقاليد المغربية في وسط حضري حديث دون فقدان الروح الأصلية”
ليس المتحف مجرد رفوف من القطع الجميلة، بل هو مساحة مقاومة للنسيان. في زمن السرعة الرقمية والتفاهة البصرية، يقدم متحف الأوداية دعوة خفية: “توقف، تأمل، تذكر.” وبين طين الجدران ونقوش الخشب، يتشكل الوعي بما يجب ألا يمحى.