بقلم : دعاء سميح
أحياناً لا نحتاج إلى حقيبة سفر ولا إلى تذكرة ذهاب فقط نغلق أعيننا ونفتح نوافذ القلب على مصراعيها فتنهمر الصور دفعة واحدة كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ وقت طويل تلك اللحظة التي تنكسر فيها قشرة الصمت في دواخلنا ونعود نحن الذين كنا قبل أن نمضي في طرق لا تشبهنا في حضرة الذاكرة لا نكذب لا نرتب الكلمات لا نحاول إقناع أحد نحن فقط نكون كما نحن بخساراتنا وهشاشتنا ودهشتنا الأولى أمام العالم.
الذاكرة ليست فقط خزاناً للصور بل هي المساحة التي نرتب فيها شتاتنا حين تضيق الحياة وتشتد وحدتنا نلجأ إليها كما يلجأ الغريب إلى زاوية دافئة في شارع لا يعرفه هي الحنان الذي لم نستطع قوله في وقته هي الضحكات التي ضاعت وسط بكاء لم نتحكم فيه هي يد الجد التي أمسكت بنا ذات مرة ونحن نكاد نسقط هي صوت الأم ينادينا من الشرفة هي الشوارع القديمة والمقاعد الصامتة التي شهدت أول أسرارنا
حين تصير الذاكرة وطناً لا نغادره فذلك لأن الخارج صار موحشاً لأن الزمان يخذلنا مراراً ولأن الوجوه تتغير دون سابق إنذار فنبقى نحن والذاكرة نعبر بها الأيام نخفي داخلها ما لا نقوله لأحد نحتفظ فيها بمن أحببنا ومن فقدنا ومن انتظرنا ولم يأت الذاكرة لا تحتاج أن تكون سعيدة دائماً بل صادقة حتى في وجعها في صمتها في تفاصيلها الصغيرة التي لا يراها سوانا
نكتب أسماءنا داخلها ونحملها كما يحمل طفل لعبته المفضلة حين يخاف من العتمة وفي كل مرة نغرق في تعب لا نحتمله نعود إليها نبحث فيها عن ملامحنا القديمة عن صوت كان يربت على وجعنا عن لحظة جعلتنا نشعر أن للحياة معنى حقيقي
أن تكون لك ذاكرة يعني أنك عشت بصدق أنك أحببت وخفت وبكيت وضحكت أن ثمة لحظات بقيت بداخلك رغم كل ما تغير وحين تصير هذه الذاكرة وطناً لا نغادره فذلك لأنك فهمت أخيراً أن الانتماء لا يكون دائماً للأمكنة بل أحياناً يكون لذكرى جعلتك تشعر أنك حي بحق .