بقلم : دعاء سميح
عندما يأتي الصيف لا نفتح فقط نوافذ بيوتنا بل نفتح أيضًا أبوابًا داخلية ظلت موصدة طيلة شهور من الروتين والركض والانتظار نلبس خفة جديدة ونحاول جاهدين أن نبدو أكثر فرحًا وكأن حرارة الشمس تلزمنا بالابتسام حتى ونحن نتعب وسط كل هذا التغير يبقى البحر هو الوجهة الأصدق التي نلجأ إليها كمن يعود إلى حضن أول لا نذهب إليه لنسبح فقط بل لنستعيد أنفسنا بين موجاته اللامتناهية ونفرغ فيه ما لم نُحسن قوله أو لم نجد من يسمعه في الشاطئ تتجاور الحكايات بصمت هناك من جاء بعد سنة شاقة وهناك من يحمل في قلبه فقدًا صامتًا وهناك من لا يعرف تحديدًا لمَ أتى لكنه كان يحتاج فقط أن يكون بالقرب من الماء نمد أجسادنا على الرمل ونترك الشمس تفعل ما تشاء نضحك دون تحفظ ونأكل بأيدينا ونترك أحذيتنا في مكان ما كأننا نرغب في أن نلمس الأرض مباشرة نحن لا نهرب إلى البحر بل نعود إليه كملاذ أخير من ضجيج العالم وضيق المدن
لكن وسط هذا الازدحام المفرط وبين الأجساد المتقاربة لا يزال هناك فراغ داخلي يسكن كثيرين منا فراغ لا يملؤه إلا لحظة تأمل صافية مع الموج حين نصمت وننظر للأفق ونحس بشيء لا نعرفه تمامًا لكنه يريحنا دون تفسير البحر ليس فقط مكانًا للاستجمام إنه مرآة حقيقية نرى فيها أنفسنا بوضوح دون زينة دون تصنع حين نبتعد قليلا عن الضجيج ونجد زاوية هادئة ندرك أننا كنا نحتاج هذه المساحة لنسمع أنفسنا من جديد البحر يمنحنا أكثر مما يأخذ يهدينا الصمت حين يعجز العالم عن الكلام يعيد ترتيب نبضنا ويُخرجنا من فوضى الداخل
الصيف في حقيقته ليس فقط عطلة الصيف هو نوع من العلاج النفسي بصيغة جماعية الكل يأتي محملاً بما لا يُقال وكلٌّ يبحث عن شفاء خاص لا أحد يدفع فقط ثمن السفر نحن في العمق ندفع تكلفة لنرتب ما اختل في دواخلنا من تعب السنة كلها من التراكمات من الصراعات الخفية ومن كل ما دفنّاه في الركض اليومي قد نظن أننا نحجز إقامة في فندق لكننا في الحقيقة نحجز إقامة مؤقتة في ذواتنا نحاول لملمة أنفسنا في حضرة ماء وحر وهواء مفتوح الصيف هو اللحظة التي نأخذ فيها نفسًا طويلًا قبل أن نغوص من جديد في سنة قادمة تحمل جديتها وإيقاعها المتعب الصيف فسحة بين فترتين امتحان صامت يعيد إلينا شيئًا من إنسانيتنا المرهقة
عشق البحر ليس حبًا لمكان بل توق دائم نحو لحظة هدوء نادرة نحتاجها بشدة لنتذكر من نكون في الأصل حين نخلع أقنعتنا ونغسل وجوهنا بماء مالح ونترك الريح تعبث بشعرنا دون قلق كل ذلك ليس ترفًا بل حاجة داخلية للاتصال بالجوهر مع كل موجة تأتينا فرصة لبدء جديد ومع كل غروب نلمح في الأفق وعدًا بأن لا شيء يستمر كما هو حتى التعب لا يدوم كثيرًا
وفي النهاية حين نغادر البحر لا نعود كما كنا نحمل معنا شيئًا من النقاء ومن البساطة ومن الرغبة في إعادة الأمور إلى نصابها نعود أكثر خفة وأكثر قدرة على استقبال ما ينتظرنا حتى لو كانت الشواطئ أكثر ازدحامًا من أفكارنا فإن البحر يظل أرحب من كل ما يضيق فينا وأعمق من كل ما نخفيه .