مواضيع ذات صلة

متحف القصبة بطنجة: مرايا التاريخ في حضن البحر الأبيض المتوسط

بقلم: آية الحمري

في الركن الشمالي الأقصى من المملكة المغربية، حيث تمتزج نسمات البحر الأبيض المتوسط بشذى الأطلسي، وتتنفس طنجة عبق العصور، ينتصب متحف القصبة كواحد من أكثر الفضاءات الثقافية شاعريةً وغموضًا في آنٍ واحد. هنا، لا يُعرض التاريخ في واجهات زجاجية فحسب، بل يُروى عبر تفاصيل الجدران، وأصداء البلاط، وزخارف الأبواب التي لا تزال تهمس بأسرار العابرين من حضاراتٍ لا تُعدّ.
يقع المتحف داخل قصر القصبة، الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، وقد لعب السلطان مولاي إسماعيل دورًا مهمًا في تدعيم بنيته وتوسيعه، ليصبح لاحقًا معلمًا تاريخيًا يحتضن متحف ثقافات البحر الأبيض المتوسط، تحت إشراف مؤسسة المتاحف الوطنية المغربية. هذا التحول من قصر سلطاني إلى فضاء ثقافي يجعل من المتحف شهادةً حية على التحولات السياسية، والاجتماعية، والجمالية التي عرفتها طنجة عبر العصور.
عند دخول المتحف، يخال الزائر نفسه يدخل في نفق زمني متعدد الطبقات. من باحاته الهادئة، حيث تفترش الحدائق الأندلسية الأرض، إلى القاعات الداخلية التي تحتضن قطعًا أثرية فريدة: فسيفساء رومانية تم اكتشافها في موقع وليلي، نقوش أمازيغية، خرائط استعمارية، خزف أندلسي، وأسلحة تقليدية، وكلها تشهد على أن طنجة لم تكن يومًا مدينة هامشية، بل كانت وما تزال نقطة تقاطع كبرى بين إفريقيا وأوروبا، بين الشرق والغرب، وبين الماضي والمستقبل.
واحدة من أبرز القاعات تعرض مخطوطات قديمة وخرائط بحرية تعود إلى قرون مضت، تُظهر طنجة كميناء استراتيجي تتنازعه القوى الاستعمارية، ما يفتح باب التأمل في رمزية الموقع الجغرافي لطنجة المطلة على مضيق جبل طارق، والذي يجعل من المتحف مرآةً سياسية وثقافية في آنٍ واحد.
ولا يمكن الحديث عن متحف القصبة دون التوقف عند الإطلالة الساحرة التي يوفرها على البحر الأبيض المتوسط، حيث تلتقي زرقة السماء بزرقة البحر، وكأن التاريخ كله انحنى ليمنح هذه المدينة نظرة استثنائية على العالم. هناك، من أعلى الشرفة، لا تكتفي العين بالمشهد الطبيعي الخلاب، بل تتأمل كيف أن الحضارات التي مرت من هنا قد رأت المنظر ذاته، وإنْ بعينٍ مختلفة، ولغرضٍ مختلف.
ليس متحف القصبة مجرد مكان لعرض القطع الأثرية، بل هو فضاء للتأمل والتأريخ وإعادة بناء ذاكرة طنجة الجماعية. ذاكرة مشبعة بالتعدد، حيث يلتقي الأمازيغي بالعربي، والأندلسي بالموريسكي، والأوروبي بالإفريقي، في حوار دائم لا يعرف الانقطاع.
ففي طنجة، لا يُكتب التاريخ بالحبر فقط، بل يُنقش بالضوء والظل، ويُحكى بلغة الزليج والنحت، ويُتداول في صمت الزوايا وأقواس النوافذ التي شهدت صعود وسقوط إمبراطوريات.