مواضيع ذات صلة

جدلية الرواية والتاريخ والوثيقة “المفتي الطريد” نموذجًا

أمينة عباس- دمشق

أثارت الندوة التي عقدها الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في دمشق يوم أمس 26/6 للاحتفاء برواية “المفتي العام” للكاتب خليل الصمادي الكثير من الأسئلة بالنسبة للمشاركين فيها: الناقد د. ثائر عودة، والناقد أحمد هلال، حول موضوع الرواية التاريخية لجهة ثنائية التاريخ والوثيقة، والعلاقة مع الرواية بوصفها متخيلاً سرديًا. فيبيّن هلال في مشاركته: تتداخل في هذا العمل عناصر مختلفة من الرواية والتاريخ والوثيقة، وعلى الأرجح أن رواية الوثيقة التاريخية، بحسب ما هو مذكور في الممارسات النقدية، تقوم على متخيل تاريخي، بمعنى استحضار للتاريخ من المرويات والشفويات والكتب والوثائق، لتكون دالة على سيرورة شخصية اعتبارية دينيًا ووطنيًا وقوميًا، فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا، ألا وهي شخصية المفتي أمين الحسيني، التي تحيلنا الرواية إلى الدور الذي اضطلعت فيه الشخصية في مسار القضية الفلسطينية.

الناقد أحمد هلال

السيرة الغيرية

ويضيف هلال قائلًا: “من السائد أن الوثيقة التاريخية، بسلطتها المرجعية، ستبدو خلفية لما يسرده الكاتب، وقد لاحظنا ذلك في أعمال بعينها من مثل: (خنجر سليمان) للروائي الفلسطيني صبحي فحماوي، و(سليمان الحلبي) للروائي السوري داود أبو شقر، فضلًا عن أعمال عربية، أشهرها ما كتبه واسيني الأعرج، حيث إن التاريخ أو الوثيقة أو كليهما معًا فيها سيبدوان كخلفية لما يسرده الكاتب، ولكن ما ذهب إليه الكاتب خليل صمادي كان أمرًا مختلفًا عن ذلك السعي، إذ إنه بحث بكل ما أمكنه أن يكون الفضاء المحايث لشخصية المفتي أمين الحسيني، عبر ولوجه ما يُعرف بحقل السيرة الغيرية، بحثًا في سردية الوثيقة التي تؤرخ لمسيرته بتعالقها بغير محيط عربي، ليجعل الكاتب من تلك الوقائع الصريحة بعنواناتها الفرعية وتواريخها مجالًا لسردية تاريخية بامتياز، وهو ما يأخذنا إلى ذلك التدوين التسجيلي للوقائع والأحداث، أي ثنائية السرد والتوثيق، بصرف النظر عن أن الرواية هي سرد للمتخيل التاريخي، يعاضده كسر يقين الوثيقة والشخوص، والقرائن المكانية والزمانية، إذ ينطلق الكاتب ليضعنا على تخوم حكاية طويلة، لكنها مليئة بالتشويق وفتنة الحوار، الذي يحاكي متخيل الكاتب”،
ويختم هلال كلامه بالإشارة إلى أن إعادة صياغة الوقائع والأحداث سردًا ورواية، هو ما تذهب إليه رواية “المفتي الطريد”، التي تشي بأن التاريخ هو متخيل جمعي، على الرغم من سعي الكاتب إلى إعادة الاعتبار لشخصية المفتي التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.

الناقد د.ثائر عودة

الروائي يخرق الحدود

وبعد العديد من التساؤلات التي طرحها الناقد د. ثائر عودة في مشاركته: “ما هو المنسي من التفاصيل التاريخية التي اصطادها الكاتب وتعد خاصية حصرية له، فتجعل الكتاب جديدًا بما احتواه؟ وما دوافع كتابة هذه الرواية/الكتاب الآن؟ وما الجديد على مستوى علاقة الرواية بالتاريخ والتداخل بينهما، فنا وتأريخًا؟” يبيّن أن الرواية/الكتاب تركز على البطل الفردي وعالمه المليء بالأحداث العاصفة، دون الخروج من دائرة الفرد إلى دوائر المجتمع الفلسطيني، وفي هذا وفاء لما درجت عليه معظم الروايات التاريخية منذ  القرن ال 19 التي أعرضت عن تقديم نسيج اجتماعي ممتد، عميق التحليل لحال المجتمع والبلاد، حيث معلوم أن التاريخ المجتمعي يقع حمله على عاتق الأديب أكثر من المؤرخ، لأن الروائي له قدرة كبيرة على اصطياد التفصيلات، وبفضل خياله الخصب يخرق كل الحدود التي يقف عندها المؤرخ عاجزًا، علمًا أن هناك نوعين من الروايات التاريخية: الأولى تعيدنا إلى التاريخ بكل تفصيلاته وطقوسه، والنوع الآخر يستعيد المناخ التاريخي فقط ثم يترك لنفسه قدرًا من الحرية النسبية داخل إطاره، فيذهب من الحاضر إلى الماضي بكثير من المرونة، ليكون هدف الروائي ليس التأريخ للحقبة الزمنية بقدر استخدامه بوصفه مجازًا وأداة للتعبير عن الواقع (المعاش)، وثمة نوع ثالث يخرج من رحم النوعين المذكورين، يجمع بين العودة الحقيقية للتاريخ وبين استدعاء ذلك المناخ للتعبير عن واقعة معاصرة، فتؤرخ للماضي بشخصية (الحاج الحسيني) الممتدة في تاريخ القدس وفلسطين، متناولة الأبعاد النفسية والوجدانية بهدف إسقاطه على الواقع، بوصفه متنفسًا أدبيًا يشرح به الأديب أثر الحدث التاريخي في الواقع الراهن، وكأنه يشير إلى العلاقة غير المباشرة بين ما حدث ويحدث الآن.

التاريخ والأدب

ويرى د. عودة ان علاقة أخرى بين التاريخ والأدب تظهر بصورة جديدة تبرز التداخل بينها وحاجة كل منها للاخر :” يحتاج التاريخ الأدب ليبحث في نقاطه المظلمة التي لم يفطن لها التسجيل حتى يضيئها الخيال القائم على الاستقراء ، بينما يحتاج الأدب التاريخ بصفته تراثاً حاضراً لإثراء المحتوى وإفادة المعنى لأنهما في النهاية يتفقان في سعيهما الى افهام الإنسان ماهيته ورصد حركته في المجتمع – ليكون التلاقي بين السرد التاريخي والفن الروائي في المطلق ناتج من كونهما يؤديان الوظيفية الاجتماعية نفسها، وهي اشباع الرغبة الإنسانية في المعرفة : ماذا كان ؟ وماذا حدث ؟ و اذا كان التاريخ هو رواية ما كان فإن الرواية هي تاريخ ما كان عليه أن يكون !!؟.. وبناء على ما سبق يؤكد د. عودة ان الكاتب خليل الصمادي أحرز بعض النقاط في التعامل الأدبي مع المادة التاريخية كون الروائي فيه لم ينقل السرد التاريخي الصلب فحسب بل نقل تصوره له من خلال تفاعله مع المحتوى التاريخي:” صحيح أنه لم يلتفت أولم يكن معنيناً بتشكيل مادة أدبية مبنية على أسس الرواية الفنية لأن غرضه – كما بدا لي – هو تدوين تاريخ المفتي بأسلوب سردي غير ممل يقوم على لغة صافية متينة ومحكمة تجمع بين التراث والمعاصرة وقد ظهر فيه الجانب الدرامي أو الوجداني الذي يسد النقص الذي يعاني منه التاريخ عادة من هذه النواحي، من هنا فإن هذا الكتاب / الرواية قد يكون ضرورياً ومهماً في هذه الفترة التاريخية العصيبة التي تصبح بها القضية الفلسطينية والعربية بشكل عام وربما يكون ثرياً ومفيداً للأجيال الناشئة لتطلع على سيرة حياة رجل وقائد وتراثه المشرف ومسيرته التي تصب في المسيرة الكفاحية لشعب فلسطين وحركته الوطنية وربما يحسب للكاتب هذا الجهد المضني الذي حاول من خلال إنارة السبيل أمام من فاتهم الاطلاع على تلك الحقبة من تاريخ فلسطين”.

الكاتب خليل الصمادي

رواية تاريخية وثائقية

ويشير الكاتب خليل الصمادي في نهاية الندوة – أدارها عبد الفتاح ادريس عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والأدباء والصحفيين الفلسطينيين – إلى أن كتابه رواية تاريخية وثائقية تتناول حياة زعيم سياسي ناضل من أجل فلسطين، وقد حاربه الأعداء والأصدقاء فعاش طريداً من حيث قضى سبعة وثلاثون عاما مطارداً منفياً عن مسقط رأسه في القدس لأنه لم يهادن أو يساوم المحتل والغاصب، والرواية لم تأتي عفو الخاطر بل هي هاجس فكرت فيها منذ عشرين عاماً لقناعتي أن هذه الشخصية الفلسطينية ظلمت كثيراً لذلك لم أجنح بالخيال فيها كثيراً لأنها شخصية رمزية اعتبارية من الضروري تعريف الأجيال الحالية عليها وعلى مواقفها.
يذكر أن المفتي محمد أمين الحسيني كان المفتي العام للقدس، وأحد أبرز الشخصيات الفلسطينية في القرن العشرين، ولد في مدينة القدس عام 1895، شارك في العمل الوطني الفلسطيني منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918م ، اعتقل وسجن وعاش طريداً لينتهي به المقام في لبنان التي فارق فيها الحياة عام 1974، والرواية مليئة بتفاصيل أخرى مشوقة عن حياته التي كانت في خدمة قضيته الفلسطينيية.