مواضيع ذات صلة

“اعترافات” لجان جاك روسو “المرأة في عالم روسو” بين التقديس والاستغلال.

لا يمكن فصل «اعترافات» عن صور النساء اللواتي شكلن حياة روسو: الأم الميتة التي يحمل ذكراها كجرحٍ لا يندمل، مدام دي وارنز التي مثّلت له الملاذَ العاطفي والجسدي، وتيريز لوفاسور، الخادمة الأمية التي عاشت معه 33 عامًا وأنجبت منه أطفاله المُهمَلين. روسو يعترف بظلمه لهنّ، لكنه في الوقت نفسه يصورهنَّ كأدواتٍ في مسيرته الفلسفية. تيريز، مثلاً، تُوصف بأنها «كائن بسيط لا يعرف الخداع»، بينما تُقدّم مدام دي وارنز كـ«امرأة فاضلة رغم شهواتها». هذا التناقض يعكس رؤية روسو المثالية للمرأة ككائنٍ بين «الملائكة» و«الغواية»، وهي رؤية انتقدتها لاحقًا الحركات النسوية لتعزيزها النمطية الذكورية.
ما يميّز أسلوب روسو هو الانزياح عن لغة الفلسفة الجافة إلى لغةٍ تشبه النشيد الديني أحيانًا. فحين يتحدث عن طفولته، يكتب: «كانت جنيفُ مدينةً من زجاجٍ، وأنا الطفلُ الذي يُحطمها بحجرِ البراءة». وعندما يصف شعوره بالاضطهاد، يتحول النص إلى كابوسٍ سوريالي: «كنت أرى العيونَ تُلاحقني من جدران الغرفة… حتى الظلُّ كان يتهمني». هذا المزج بين العاطفة الجياشة والتحليل العقلاني جعل «اعترافات» جسرًا بين عصر التنوير والرومانسية، حيثُ أصبحت الذاتُ المكبوتةُ بطلًا أدبيًّا.
هذا ورغم أن «اعترافات» لم تُنشر كاملةً إلا بعد موت روسو (خوفًا من فضائحتها)، فقد أصبحت مرجعًا لكل من أراد أن يكتبَ عن ذاته بلا أقنعة. تأثيرها امتد من الأدب الرومانسي (كأعمال كيتس وبايرون) إلى الفلسفة الوجودية (مثل سارتر وكامو)، وحتى عصرنا الحالي، حيثُ يُرى روسو كـ«أول مدوّن» في التاريخ، سبقَ عصرَ التدوين الرقمي بقرنين. لكن السؤال الذي يطرحه الكتاب لا يزال قائمًا: هل الاعترافُ العلنيُّ طريقٌ للتحرر أم فخٌّ نصنعه لأنفسنا؟
في النهاية، «اعترافات» ليست مجرد كتاب، بل تجربةٌ وجودية تضع القارئ وجهًا لوجه مع أعماق النفس البشرية: أفظع أسرارها، تناقضاتها المُربكة، وحنينها الأبدي إلى أن تُفهمَ رغم كل شيء. كما قال روسو نفسه: «لقد كشفتُ عن قلبي لكَ، فانظر إليه… ثم احكمْ».

السياق التاريخي لـ”اعترافا: الأجواء الفكرية والاجتماعية التي أنتجت سيرة الثورة على الذات
الجزء الأول:
عصر التنوير وتناقضاته الخفية.
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بينما كانت أوروبا تُناقش مُثُلَ العقلانية والحرية، كانت تعيش تناقضًا عميقًا: فَرَغمَ صعود فلسفات فولتير وديدرو التي نادَتْ بتحرير الفكر من سلطة الكنيسة، ظلَّ المجتمعُ الأوروبي مُقيَّدًا بأغلال التراتبية الطبقية والقمع الأخلاقي. جان جاك روسو (1712–1778)، الذي وُلد في جنيف الكالفينية، حيثُ كانت الفضيلةُ العامة تُراقب من نوافذ المنازل، حملَ معه طوال حياته صراعًا بين قيم المدينة البروتستانتية الصارمة ورغبته في تحطيم التابوهات.
لم يكن التنويرُ حركةً موحَّدة كما يُصوَّر غالبًا، بل ساحة معركة بين تيارين:
1. “التنوير الرسمي”: مُمثَّلًا بصالونات باريس الفاخرة، حيثُ كان الفلاسفة ينتقدون الدينَ لكنهم يُمجِّدون النظامَ الاجتماعي القائم.
2. “التنوير الهامشي”: الذي انتمى إليه روسو، والذي رأى أن العقلانيةَ نفسها أصبحت أداةً لقمع الطبيعة الإنسانية. هنا، نجدُ مفارقةً: روسو، الذي شارك في تحرير “الموسوعة” مع ديدرو، انقلبَ على رفاقه واتهمهم بـ”تزييف الفلسفة لخدمة النخبة”.
النص المقبل في هذه الدراسة عن الجزء الثاني من إعترافات