مواضيع ذات صلة

فن الحناء… عبق التقاليد وروح الهوية الثقافية

بقلم: آية الحمري

وسط عبق الزهر، وزغاريد النساء، تقف “النقاشة” ممسكة بمخروط الحناء، ترسم بأناملها خيوطا دقيقة تتحول إلى زخارف تخطف الأنظار. فن الحناء، الذي ازدهر عبر قرون، ليس مجرد زينة عابرة؛ بل هو جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية في المجتمعات العربية والمغاربية والآسيوية، وخصوصا في المغرب حيث يعد من أبرز مظاهر الاحتفال بالأنوثة والتقاليد.


في المغرب، لا يمكن تخيل عرس دون جلسة الحناء، حيث تزف العروس وسط طقوس خاصة تتداخل فيها الأهازيج الشعبية مع رمزية النقوش . حيث تراها بعض النساء لا زينة فحسب بل بركة و فرح ، أما البعض الآخر فيراها رمزا للخصوبة “الحناء ليست فقط للزينة، إنها بركة وفرح، ورمز للخصوبة و الحماية من العين و الحسد.
بحسب اليونسكو، يُعد نقش الحناء من الممارسات الثقافية ذات الطابع غير المادي، والتي تعكس التراث الحي والمتجدد للشعوب. وقد تم تسجيل فن الحناء الإماراتي على قائمة التراث غير المادي للإنسانية سنة 2022، في ملف مشترك بين عدة دول عربية، من بينها المغرب.
إلا أن تداخل الحداثة مع الهوية المغربية عقبه تراجع في بعض المظاهر التقليدية ، خصوصا بين صفوف الجيل الجديد الذي بات يفضل التصاميم المؤقتة أو الرسومات الغربية. رغم ذلك، لا تزال حفلات الحناء تحتفظ برونقها في القرى والمناطق التي تحرص على صون التراث.
تصنع الحناء من نبات يطحن ويخلط بالماء أو ماء الزهر، وأحيانا يضاف إليه زيت الأركان أو أعشاب أخرى. وتختلف النقوش من منطقة لأخرى؛ فبينما تفضل نساء الجنوب الرسومات الهندسية، تميل المراكشيات إلى التصاميم الموردة أو ما يعرف بـ “الحناء الفاسية”.
ورغم بساطتها، فإن هذا الفن يعد مصدر دخل للكثير من النساء في المناطق الهشة، حيث تعمل النقاشات في الأعراس والمهرجانات وحتى في السياحة، مقدمات نموذجا حيا للتمكين عبر الفن التقليدي. إن فن الحناء ليس مجرد رسومات تزين الأيادي والأقدام، بل هو لغة بصرية غارقة في الرمزية والوجدان الجمعي. هو موروث نسائي عريق، تنقله الجدات للأمهات، والأمهات للبنات، في صمت حميمي مليء بالدلالات. ففي كل نقطة ونقش، تختبئ حكايات عن الحب، والخصوبة، والحماية، والجمال، وهي قيم تتجاوز الجسد لتلامس الروح.
اليوم، و في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها العالم، يظل فن الحناء صامدا كأحد أبرز تجليات الثقافة الشعبية، ليس في المغرب فقط، بل في مختلف البلدان التي احتضنته وعبرت من خلاله عن هويتها. إنه تحد صامت أمام طوفان العولمة، وإثبات أن الحداثة لا تعني بالضرورة القطع مع الماضي، بل يمكن أن تكون امتدادا له بأساليب جديدة.
وهنا، يبرز دور المؤسسات الثقافية، والباحثين، ووسائل الإعلام في إعادة تسليط الضوء على هذا الفن، وتوثيقه، وتقديمه للأجيال القادمة لا كمجرد تقليد قديم، بل كفن حي، قادر على التجدد والتكيف، وعلى أن يكون أداة للتعبير والتمكين، بل وحتى وسيلة للاقتصاد المحلي والسياحة الثقافية.
وفي زمن تُمحى فيه الفروقات الثقافية لصالح نماذج معولمة ومتشابهة، يظل فن الحناء رمزا للفرادة، وبوصلة تقودنا نحو الجذور. إنه فن عابر للزمن، يربطنا بتاريخنا، ويمنحنا فرصة لإعادة اكتشاف الذات، من خلال أبسط ما يمكن أن تحمله اليد: رسمة… ولكنها مشبعة بالهوية.