بقلم: حفصة الغزواني
في حياة غسان كنفاني، لم يكن هناك وقت للترف أو التأجيل. كل شيء كان مستعجلًا، كأن الزمن يطارده. كتاباته لم تكن مجرد أعمال أدبية، بل كانت محاولة لحماية الذاكرة من التلاشي، وتوثيق الألم قبل أن يُنسى، ورسم ملامح وطن مقصود لطمسه بالقوة. لذلك، لم يكن غسان يكتب لأن الكتابة هواية، بل كان يكتب لأنه كان يوثق ضد المحو…
وُلد غسان كنفاني في عكا سنة 1936، وعاش نكبة 1948 وهو طفل، عندما اضطرت عائلته إلى اللجوء إلى لبنان ثم سوريا. تجربة النزوح المبكر شكّلت الأساس العميق لفكره وأدبه. في مخيمات اللاجئين بدمشق، بدأ يلاحظ كيف تختفي ملامح الناس خلف الخيام، وكيف تُصبح القصص شفوية عابرة، تتآكلها الأيام. ومن هناك، بدأ إدراكه أن ما لا يُكتب، يُنسى.
غسان كنفاني لم يكن كاتبًا فقط، بل كان مؤرخًا وطنيا لشعبه من نوع مختلف. لم يستخدم التواريخ أو الأرقام، بل كتب الحياة اليومية للاجئين، لحظات الانتظار، الهزيمة، الحلم، الخيبة، والانتماء. روايته “رجال في الشمس” لم توثق فقط مأساة التهريب والموت داخل الخزان، بل كانت رسالة ضد الصمت، وضد قبول المأساة كأمر عادي. سؤاله الشهير: “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟” لم يكن سؤالًا روائيًا فقط، بل تحذيرًا: من لا يُعبّر عن ألمه، يُدفن بهدوء.
رواية “عائد إلى حيفا” كانت بدورها مثالًا واضحًا على رغبته في تسجيل ما وقع. لم تكن قصة خيالية، بل مواجهة مع سؤال حقيقي: ماذا يحدث حين يعود اللاجئ إلى بيته بعد عشرين سنة، ويجده البيت يسكنه غيره؟ كانت اللغة واقعية، جافة أحيانًا، لأنها لا تبحث عن التجميل، بل عن الدقة.
خوف غسان من النسيان لم يكن فقط أدبيًا، بل كان سياسيًا أيضًا. كان يرى أن مشروع الاستطان لا يهدف فقط السيطرة على الأرض، بل أيضًا السيطرة على الرواية. لذلك، آمن أن القلم يمكن أن يكون بندقية وأحيانا أقوى من البندقية، بشرط أن يُستخدم بصدق. كتب في افتتاحياته الصحفية بمجلة “الهدف” بلغة حادة، ناقدة، لا تساوم، وكان دائمًا يشير إلى خطورة السكوت عن التفاصيل الصغيرة، لأنها البداية لنسيان القصة كاملة.
حتى حياته الشخصية كانت محاطة بهاجس الزمن. غسان لم يعش طويلًا، اغتيل في بيروت سنة 1972، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، في تفجير استهدفه نفذه الموساد الإسرائيلي. لكنه، في هذا العمر القصير، ترك أكثر من 18 عملًا منشورًا، بين روايات، قصص قصيرة، ومقالات سياسية. وكأنه كان يعرف أن عمره قصير، وأن عليه أن يكتب بسرعة، وبكثافة، لأن النسيان لا ينتظر.
اليوم، مع الذكرى 53 عاما لاغتياله، لا تزال كتاباته تُقرأ، وتُدرّس، وتُقتبس. كأن كل كتاب من كتبه كان محاولة لإنقاذ جدار آخر من ذاكرة الفلسطينيين وفلسطين. لذلك، يمكن القول إن غسان كنفاني لم يُغتال فقط لأنه مناضل، بل لأنه كان يشكل تهديدًا حقيقيًا لآلة النسيان. كان يكتب ليبقي الأشياء حيّة، ليقول إننا كنا هنا، وما زلنا وسنبقى..