مواضيع ذات صلة

غسان كنفاني: بين الصحافة والمسرح… حين تصير الكلمة سلاحا

بقلم : آية الحمري

في زمن النكسة والنكبة، وبين لجوء مفروض ومقاومة مشتهاة، صعد صوت فلسطيني مختلف، لم يحمل البندقية بيده، بل حملها في قلمه. غسان كنفاني، الكاتب والسياسي والصحفي والمسرحي، كان من أولئك القلائل الذين فهموا أن مقاومة الاحتلال لا تمر فقط من فوهة البندقية، بل من وعي الشعوب أيضا. تنقل بين المقالة والمسرحية، بين افتتاحيات الجرائد وخشبة المسرح، ليرسم ملامح جيل مهزوم يبحث عن المعنى والكرامة والعودة. لم يكن كنفاني مجرد كاتب، بل مشروع تحرري متكامل، امتدت أدواته من الصحافة الثورية إلى المسرح الرمزي.

انخرط غسان كنفاني مبكرا في العمل الصحفي، مدفوعا بحس وطني ثوري، ووعي سياسي متقد. بدأ رحلته مع جريدة “الحرية” التابعة لحركة القوميين العرب، حيث تولى مهام التحرير والكتابة، ثم أصبح أحد أبرز الوجوه الصحفية في الساحة العربية خلال الستينات. لكن المرحلة الأهم في مسيرته الصحفية بدأت عام 1969 حين أسندت إليه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رئاسة تحرير مجلتها المركزية “الهدف”.

في “الهدف”، لم يكتف كنفاني بدور المحرر، بل جعل من المجلة منبرا للمقاومة، ومساحة لتحليل عميق يقارب القضايا من منطلقات فكرية وثقافية، بعيدا عن الشعارات الجوفاء. كانت افتتاحياته بمثابة بيانات سياسية أدبية، توجه الرأي العام، وتعيد طرح القضية الفلسطينية في سياقها الإنساني والتحرري.

ولم يتعامل مع الصحافة كمهنة فقط، بل كمعركة فكرية، وكان يؤمن أن الصحفي الحقيقي يجب أن يكون شاهدا على الظلم، وشهيدا من أجل الحقيقة. لذا كتب بلغة مباشرة، جريئة، حادة، تدمج بين التحليل السياسي والأسلوب الأدبي، مستهدفا بها وعي القارئ العربي قبل عينيه.

لم تكن مقالاته حكرا على فلسطين، بل حملت البعد العربي والأممي، دافع فيها عن المظلومين أينما كانوا، وسعى دائما لفضح العنصرية الصهيونية، والتواطؤ الدولي، وتقاعس النخب. من هنا، تحولت الصحافة عند كنفاني إلى شكل من أشكال المقاومة الثقافية، وامتداد طبيعي لبندقية الفدائي.

رغم أن كنفاني لم يعرف كمسرحي في المقام الأول، فإن كتاباته المسرحية تحمل من العمق الرمزي والحمولة السياسية ما يجعلها جزءا أصيلا من مشروعه التحرري. وظف في مسرحه الأسطورة، والرمزية، والواقع السياسي، ليعيد بناء الوعي الفلسطيني على خشبة المسرح.

في مسرحية “الباب”، يقدم كنفاني شخصيات سجينة في قبو، تخشى فتح الباب نحو المجهول؛ إذ أن المسرحية  إسقاط واضح على الشعوب العربية التي تخاف الحرية، وتهاب التغيير. أما في “القبعة والنبي”، فيمارس كنفاني سخرية لاذعة على الوعي الزائف، مستعرضا لعبة السلطة والخديعة الجماعية. بينما تأتي مسرحية “جسر إلى الأبد” لتغوص في معنى الحياة والموت من خلال قصة حب مأساوية، حيث تقدم المقاومة كفعل وجودي لا مجرد خيار سياسي.

روايته “ما تبقى لكم”، رغم كونها عملا سرديا، فقد تم مسرحتها في عدة بلدان، بسبب لغتها المسرحية القوية، وبنيتها الحوارية التي تجسد صراع الإنسان الفلسطيني مع ذاته، وأرضه، وتاريخه. المسرح عند كنفاني لم يكن ترفا فنيا، بل وسيلة لتأطير الوعي الجماهيري. كانت نصوصه المسرحية تعرض في المخيمات، والمسارح الشعبية، وجامعات المنفى، لأنها تتحدث بلغة الجمهور، وتعيد تصوير المأساة الفلسطينية في مشاهد حية، تجعل من “المتفرج” فاعلا في الحدث، لا مجرد متلق.

في 8 يوليو 1972، اغتيل غسان كنفاني في بيروت عبر سيارة مفخخة زرعها جهاز الموساد الإسرائيلي. لم يكن اغتياله ردًا على عملية عسكرية، بل انتقاما من كلماته التي اخترقت الصمت، ومن مجلته التي شكلت منصة للمقاومة الفكرية. مات  الجسد، لكن الأفكار حية لا تموت. بقيت افتتاحياته تقرأ، ومسرحياته تعرض، وأقواله تستشهد، لأنها لم تكن لحظة، بل مشروعا. كان شهيدا للكلمة بحق.

غسان كنفاني لم يكتب فقط عن فلسطين، بل كتب من فلسطين إلى العالم. جعل من الصحافة والمسرح وجهين لعملة واحدة: الكفاح بالكلمة. وفهم أن لا مقاومة حقيقية دون وعي، ولا تحرير دون ثقافة.

بين الجريدة والمسرحية، بين المقالة والمشهد، قدم كنفاني نموذج المثقف المشتبك، الذي لا يكتفي بالتشخيص بل يقترح الطريق، ولا يكتب ليعجب، بل ليوقظ. وإن كانت البنادق تخرس، فالكلمات الصادقة مثل كلمات غسان لا تغتال.