بقلم: هدى بن الغالية.
حين نتأمل وجه غسان كنفاني في صوره القديمة، نشعر بأننا أمام رجل خرج من قلب الحكاية الفلسطينية، لا ككاتب فحسب، بل كجسد حيّ للجرح المفتوح والأمل المستحيل. ذلك الوجه النحيل، النظرة العميقة التي تلمع خلف نظارته، والابتسامة التي تختفي سريعًا، كأنها خجولة أو كأنها تعرف أن الفرح في حياته كان مؤقتًا وعابرًا.
وُلد كنفاني في عكا عام 1936، في مدينةٍ كانت وقتها تفيض بحكايات البحر والصيادين، وطفولةٍ مسروقة على شواطئ المتوسط. لكنه سرعان ما عرف معنى الغربة حينما اضطرت عائلته إلى النزوح إلى لبنان، ثم إلى سوريا، إثر نكبة 1948. هناك، في مخيمات اللجوء وفي شوارع دمشق المزدحمة، تشكّلت أولى ملامح غسان الإنسان والمناضل والكاتب.
لم يكن غسان يكتب ليُعجب النقّاد أو ليفوز بجوائز أدبية، بل كان يكتب لأنه كان يؤمن أن الكلمة رصاصة، وأن القلم سلاح أشد خطورة من البندقية إذا ما حُمِل بصدق. في قصصه، نجد فلسطين حاضرةً في كل التفاصيل: في حنين الطفل إلى مفتاح بيته المعلّق في صدر أمه، في وجع اللاجئ وهو يراقب حقول البرتقال البعيدة، في دمعة الرجل الذي تذوب غربته على رصيف المنفى.
من يقرأ رواية “رجال في الشمس” لا يستطيع أن ينسى ذلك السؤال المرعب الذي دوّى في نهاية الرواية: لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟ سؤال تحوّل إلى صرخة في وجه الصمت العربي، في وجه الهزيمة والخيبة، وفي وجه كل من اختار أن يكون شاهد زور على مأساة شعب كامل.
كتب غسان كنفاني أيضًا “عائد إلى حيفا”، “أرض البرتقال الحزين”، و”أم سعد”، وغيرها من الأعمال التي تجاوزت كونها مجرد نصوص أدبية لتصبح وثائق روحية وتاريخية، ترسم ملامح الإنسان الفلسطيني، وتحفظ ذاكرته من الاندثار. في كل كلمة كتبها، نشعر أنه كان يكتب بدمه، وكأنه يعلم أن وقته قصير، وأنه يجب أن يترك كل ما يستطيع قبل أن يخطفه القدر.
غسان لم يكن أديبًا فقط، بل كان قائدًا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وواحدًا من الأصوات القليلة التي جمعت بين الإبداع السياسي والإنساني. كان يؤمن بأن الفن لا ينفصل عن النضال، وأن الأديب الحقيقي هو من يعيش قضيته ويُذيب نفسه فيها حتى الفناء.
وفي صباح صيفي حارق في بيروت، في الثامن من تموز عام 1972، اغتيل غسان كنفاني بانفجار سيارته، في عملية دبرها الموساد الإسرائيلي. سقط غسان جسدًا، لكن نصوصه بقيت حيّة، وظلت روحه تتنقل في شوارع المخيمات، وفي حارات عكا ويافا، وفي ذاكرة كل من حمل حلم العودة.
بعد أكثر من خمسين عامًا على رحيله، لا يزال غسان كنفاني حاضراً بقوة. يقرؤه الشباب اليوم في المخيمات، كما يقرؤه المثقفون في الجامعات، وكأن كل جملة يكتبها كانت تُخاطبهم هم، جيلًا بعد جيل.
ربما كان غسان يعلم أن المنفى ليس مكانًا جغرافيًا فحسب، بل حالة نفسية عميقة، تعيش فيك أينما ذهبت. لذلك، لم ينشغل بترف الأدب ولا بترف الحياة. كان همه الوحيد أن يترك أثرًا في ضمير الإنسانية، أن يوقظ الحلم في زمن القهر، أن يقول، ببساطة وصدق: ما زلنا هنا، وما زلنا نحلم، وما زلنا نكتب.
غسان كنفاني… لم يكن مجرد كاتب. كان ضميرًا حيًّا، كان فلسطين تمشي على قدمين، وكان القصيدة التي كُتبت بالدم، وظلت تنبض بالحياة بعد رحيله.