مواضيع ذات صلة

غسان كنفاني عين سينمائية ترصد الواقع

فاتن دعبول ـ ليفربول

يعرف الشهيد غسان كنفاني بأنه المثقف المتعدد الذي استخدم الفنون جميعها لينصر قضيته الأم، قضية الشعب الفلسطيني، فكان أديبًا وشاعرًا ورسّامًا وصحافيًا وسينمائيًا أيضًا، وهذا ما أكده السينمائي العراقي الراحل قيس الزبيدي: “نستطيع أن نؤكد أن أدب غسان كنفاني “رواياته” ليست أدبًا خالصًا، وإنما أدب فيه كثير من السينما، فيه أكثر بكثير من كثير من الأفلام. فرواياته هي روايات مسرودة وفق تقنيات المونتاج وتعدد جهة السرد، هذا إلى جانب العناية برسم بصريّة سينمائية جديرة بالاهتمام، تعتني بالبناء الزمني للأحداث، ليس على أساس التعاقب فقط، وإنما أيضًا على أساس التوازي والتزامن”.
ويضيف الزبيدي قائلًا: “عينه السينمائية بصفاتها وحساسيتها كانت تتفوق في رواياته غير المكتملة، وكان غسان يعترف بتأثير وليم فوكنر على كتابته، ومحاولته للاستفادة من الأدوات الجمالية والإنجازات الفنية التي وقعها الكاتب الأمريكي لتطوير الأدب العالمي”.

روايات ناطقة

رغم أن السينما لم تكن ضمن أولويات واهتمام غسان كنفاني، لكنها اهتمت به بطريقتها الخاصة، وعملت على اقتفاء أثره في أفلام تتالت طيلة سنوات مضت من رحيله، فكان بديهيًا أن تعبر أعماله الأدبية إلى السينما، لأن الكلمة الصادقة لا تموت، لتنتقل بذلك الرواية إلى صورة، والحرف إلى مشهد، من أجل إحياء ذاكرة تنبض بصوت الحرية المقاومة. لذلك، لم يكن تحويل روايات وقصص غسان كنفاني إلى أعمال درامية وسينمائية مجرد اقتباس إبداعي، بل كان جزءًا من مشروعه الفكري الذي يسعى من خلاله إلى أن تصير فلسطين حكاية تُروى بكل لغات الفن، وأن يتحول الأدب إلى سلاح موازٍ للبندقية، ويخاطب من خلاله الضمير العربي والإنساني على حد سواء. من هنا، أثارت رواياته وقصصه العديد من الجهات المعنية بالدراما والسينما، وبدأت تنهل من معينه.

الحصيلة السينمائية لرواياته

نقف اليوم، وفي ذكرى استشهاده، عند حصيلة السينما في اعتماد روايات غسان، وهي أربعة أفلام روائية عن ثلاث روايات:

المخدوعون

تعد رواية “رجال في الشمس” التي ألّفها كنفاني في العام 1963 من أبرز أعماله وأكثرها اقتباسًا وتأثيرًا، ففي هذه الرواية يُعري خيبات النكبة، ويروي مأساة الفلسطيني في المنفى، المنقطع عن أرضه والمطارد في لقمة عيشه، من خلال رحلة ثلاثة فلسطينيين: “أبو قيس، أسعد، مروان” في صحراء الخليج، بحثًا عن عمل في الكويت، لتتحول رحلتهم إلى مأساة تنتهي بموتهم في خزان شاحنة بعدما فشلوا في “دق جدران الخزان”، كما جاء في صرخة السائق المهرّب.
وقد جسد المخرج توفيق صالح هذه الرواية في فيلم “المخدوعون” الذي اعتُبر من أبرز كلاسيكيات السينما العربية، واحتل المركز العاشر في قائمة أهم مئة فيلم عربي حسب استفتاء قام به مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013. ويُعد واحدًا من الأعمال التي تقترب من رؤية كنفاني للقضية الفلسطينية، والعربية، وللحياة، والفن. وقد شارك الفيلم في مهرجانات عديدة، ومنها مهرجان “كان”، وحظي بتقدير واسع لما حمله من جرأة سياسية وقدرة فنية عالية.

السكين


فيلم “السكين” من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سورية عام 1972، إخراج خالد حمادة. قصة الفيلم مأخوذة عن رواية “ما بقي لكم”، تعكس جانبًا من مأساة الشعب الفلسطيني، حيث تدور أحداث الفيلم حول ثلاث شخصيات رئيسة: (حامد)، (زكريا)، (مريم).
الشابان يعيشان في مدينة غزة بعد النكسة، حامد شاب حالم يكره الإسرائيليين، ويصدم من خيانة أخته مع زكريا، ذلك الرجل الذي يتعامل مع المحتلين، والذي سلّم الشاب “سالم” إلى المحتلين لإعدامه.
يرضخ حامد لزواج أخته بزكريا الخائن وهو لا يطيقه، ويقرر الذهاب إلى الضفة الغربية ليلحق بوالدته هناك، فهو لم يلقها منذ عام 1948. وأثناء رحلته يقابل جنديًا إسرائيليًا تائهًا في الصحراء، فتأخذ حياته منحًى آخر.
الفيلم حاصل على جائزة تقديرية عام 1972 من مهرجان أفلام وبرامج فلسطين.

عائد إلى حيفا


تم تحويل رواية “عائد إلى حيفا”، وهي من أبرز الروايات في الأدب الفلسطيني المعاصر وتُعتبر من أدبيات المقاومة، وصدرت طبعتها الأولى عام 1969، إلى فيلم سينمائي من إخراج قاسم حول، وإنتاج مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي عام 1981.
تدور أحداث الفيلم الدرامية صبيحة الحادي والعشرين من نيسان عام 1948، وتُدك مدينة حيفا بالقذائف. وفي هذا الوقت، كانت سيدة قد تركت ابنها الرضيع وخرجت تبحث عن زوجها وسط حشود الناس المذعورة. وتمر الأيام والسنون وتعود الأسرة إلى البيت بعد حرب عام 1967 لتُفاجأ بأن ابنها الرضيع قد أصبح شابًا وهو مجند في جيش الاحتلال.
حصد الفيلم عدة جوائز عالمية، كما أُنتج في عام 1994 فيلم سينمائي آخر مأخوذ عن نفس الرواية تحت اسم “المتبقي”، إخراج إيراني وإنتاج إيراني سوري.
وفي تقييمه للأعمال السينمائية الثلاثة (المخدوعون، السكين، عائد إلى حيفا)، يقول الزبيدي: “استندت هذه الأفلام إلى نوعية خطاب ثقافي جاد ورصين، متماثل مع نوعية خطاب الكاتب نفسه”.

الأفلام الروائية القصيرة

وعلى صعيد الأفلام الروائية القصيرة، أُنتج العديد منها، وهنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر: فيلم “زهرة البرقوق” إخراج ياسين البكري، أنتجته مؤسسة السينما والمسرح في العراق عام 1973، كما أنتجت المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون في العراق عام 1976 فيلم “البرتقال الحزين” عن قصة “أرض البرتقال الحزين”، إخراج كوركيس عواد، وفيلمًا آخر بعنوان “كعك على الرصيف” إخراج عماد بهجت.
وبعد فترة من الزمن، أنجز المخرج الفلسطيني صبحي الزبيدي فيلم “نساء في الشمس” عام 1999، وقدم المخرج فجر يعقوب، عام 2003، فيلمه “صورة شمسية”.

أبدًا في الذاكرة

وعلى صعيد الأفلام الوثائقية، حضر غسان كنفاني في العديد من الأفلام الوثائقية مثل: “لماذا المقاومة؟”، إخراج كريستيان غازي، إنتاج لبناني عام 1970، و”غسان كنفاني.. الكلمة البندقية”، إخراج العراقي قاسم حول، إنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1973، و”لن تسكت البنادق” إخراج قاسم حول عام 1973، و”الإرهاب الصهيوني” إخراج سمير نمر عام 1973، و”أبدًا في الذاكرة” إخراج حكمت داوود عام 1982.

دروسًا في المقاومة

اليوم، وبعد مرور 53 سنة على رحيل غسان كنفاني، يمكننا أن نؤكد أن اقتباساته لم تكن يومًا تجارية أو استهلاكية، بل وبمرور الأيام صارت نصوصه المقتبسة دروسًا في المقاومة البصرية، وذاكرة مرئية لشعب لم يمت حلمه. فالكلمة عند كنفاني لم تكن للترف الأدبي، والصورة لم تكن للزينة، بل كان الاثنان معًا فعل مقاومة، ومشروع وعي، واستنهاضًا للضمير. لذلك، ستبقى أعماله حيّة، تتنفس في كل مشهد درامي، وفي كل لقطة سينمائية، ومع كل كلمة صادقة تُتلى على مسامع الأجيال. وستظل هذه الأعمال، ما بقيت فلسطين تبحث عن حريتها، تدق جدران الخزان، وتوقظ الضمير العربي والإنساني من غفوته.