أمينة عباس~دمشق
بين من يرى نشر رسائل الأدباء والشعراء أمرًا مرفوضًا، لأن تلك الرسائل تحتوي على أسرار لا يجوز إفشاؤها ويعتبرها أوراقًا خاصة، ومن يرى أنها آثار لا تقل قيمة عن أشيائهم المحفوظة في المتاحف، وأن فوائدها الأدبية للدارسين والنقاد والقراء جميعًا كثيرة، وأنها من المصادر المهمة في كتابة التاريخ.
نشرت غادة السمان، وهي من أهم الكاتبات السوريات في القرن الماضي، رسائل عاطفية كتبها لها الأديب والمناضل غسان كنفاني في الستينات من القرن العشرين، لتحدث بذلك ضجة كبرى في الأوساط الأدبية والسياسية، أثارت موجةَ جدلٍ عن مشروعية نشرها لهذه الرسائل، فاختلفت الآراء حول ذلك، فكثيرون لاموها لأنها اخترقت بها خصوصية غسان كنفاني بعد استشهاده، ومنهم من رأى أنها فعلت ذلك غرورًا واستعراضًا، في حين وصف الناشر الذي نشر الرسائل ضمن كتاب عام 1992 أن رسائل غسان كنفاني لغادة السمان خطابات “إنسانية” تختلط فيها الصداقة العميقة بلغة العصر وأوجاع الزمن وقضاياه: “ولهذا جاءت رسائل غسان وثيقة عشق عاقل، وعندما تنشر غادة السمان خطابات غسان لها، فهي تريد أن تقول لنا إن غسان، المناضل العنيد، يحمل بين جنبيه قلب شاعر. فغسان كان نمطًا آخر من الناس، وكان الحب الخاص والعام يملأ شرايين قلبه، ولهذا فكتاب غادة السمان يضم هذه الخطابات التي تصفع النظرة التقليدية للمناضل”.

إرث إنساني يجب نشره
أما غادة السمان، فقد كتبت في مقدمة الكتاب إن تلك الرسائل لم تعد كلمات وحروفًا ولواعج قلبين تيمهما العشق: “لقد تجاوز غسان كينونة الرجل العاشق، وفي الرسائل جزء من سيرة الكاتب والمناضل الذي أصبح ملك الجميع، وإن حكاية عشقه أصبحت إرثًا إنسانيًا يجب نشره وحفظه في سجلات الأدب والتاريخ، وجعله في متناول الجميع، ولعلي كنت حنثت بعهدي لغسان على نشر تلك الرسائل، لو لم أجد فيها وثيقة أدبية وسيرة ذاتية نادرة الصدق لمبدع عربي، مع الوطن المستحيل والحب المستحيل… وثيقة ثرية بأدب الاعتراف الذي تفتقر إليه مكتبتنا العربية، والرسائل بهذا المعنى تسد نقصًا سبقتنا الأمم الأخرى إلى العطاء في مجاله، وتؤسس لنوع جميل من الأدب ما زلنا نتهيب أمام بحاره، ومن أجدر من القلب العربي الثري للخوض في لجته. وبهذا المعنى، تبدو لي قراءة رسائل غسان كنفاني ضرورة للروائيين الشباب، حيث يطلعون على صورة حية لحياة شهيد حقيقي بعيدًا عن أقنعة التزوير، وأعتقد أن (أنسنة) فكرة الشهيد لا تؤذي القضية، بل على العكس من ذلك، تساعد كل إنسان على اكتشاف العملاق الذي يقطنه مهما بدا لنفسه أو للذين من حوله مريضًا وضعيفًا – بالمفاهيم التقليدية – وعاشقًا مهزومًا كسره الحب حينًا وملأه بالزهو والاعتداد أحيانًا”.
أحب وطنه حتى الموت
وتضيف السمان قائلة: “نشر الرسائل تسديد طعنة إلى جمعيات الرياء المتحدة، وهو أمر كان سيطرب له غسان، كما كان سيفرح بإحياء ذكرى أي شهيد نقي يستحق من ذاكرتنا حيزًا أكبر من الذي رصدناه له، ولعل ذلك أحد الأسباب التي دعتنا يومًا للعهد الذي قطعناه على أنفسنا بنشر رسائلنا معًا، وهو عهد ربما كنت سأتملص من تنفيذه أو أؤجله لو لم أشعر أن هذه الرسائل خرجت من الخاص إلى العام بمرور الزمن، ولكن ثمة عوامل أخرى أيضًا تحثني على نشر رسائل غسان كنفاني دونما تردد، منها مثلًا رسم شخصية (الفدائي) من الداخل، أي مناضل في أي وطن، فثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم صورة المناضل في صورة السوبرمان، لتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة.
سنكتشف في رسائل غسان أن كلاً منا يستطيع أن يكون مهمًا لوطنه إذا تبع صوت قلبه بلا وجل حتى النهاية، وتخلص من الازدواجية بين المشاعر والسلوك قدر الإمكان، فإذا أحب وطنه حتى الموت مارس ذلك الحب سلوكًا، لا خطبًا طنانة على المنابر فقط… بهذا المقياس أرى كنفاني شهيدًا نموذجيًا بالمعنى العالمي والإنساني للكلمة، ورسائله تجسد هذا النقاء الثوري البعيد عن التبتل الاستعراضي والفساد السري، ولعبة الرصانة الديكورية والأقنعة اللامقنعة. وأعترف لذكراه أن فكرة إحراق الرسائل راودتني مرارًا، وأنا أنشد مع الجوقة ضد المشي بين القبور، هربًا من الثمن الذي يدفعه كل من يجرؤ على إقلاق راحة الرياء في ممالك الأقنعة واللاوفاء، ولكن للرسالة سحرًا أبيض لا أسود، يتحول فيها المرء إلى رقعة ملساء نقية اسمها الورقة، وتخط الروح فوقها رموز الصدق”.
ولم تخفِ السمان في مقدمتها العامل النرجسي الذي لا يُستهان به في نشر الرسائل: “الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه، وأنشد لي يومًا ما معناه، وإلى جانب النرجسية الصغيرة التي لا يخلو منها أحد (بعضنا يعترف وبعضنا يكابر)، ثمة شعور بالجميل أحمله نحو غسان الصديق، وهو شعور بالجميل لا يزيده الزمن إلا تأججًا وسطوعًا… ذات يوم، كنت وحيدة ومفلسة وطريدة، وحزينة. يومها وقف كنفاني إلى جانبي وشهر صداقته… كنت مكسورة بموت أبي، ومحكومة بالسجن لذنب أفخر به، ولكن غسان أنجدني بجواز سفر، ريثما صدر أوائل السبعينات عفو عام شملني”.
وفاء لرجل مبدع اكتمل بالموت
كما رأت السمان أن نشر الرسائل ليس وفاء فقط لعاطفتها الغابرة المتجددة أبدًا نحوه، بل وفاء لرجل مبدع من بلادها اكتمل بالموت، لأنه كان أكثر صدقًا من أن يسمح له عدوه بالحياة والكتابة والاكتمال بالعطاء.
فموت غسان المبكر خسارة عربية على الصعيد الفني لا تُعوَّض، لم يُمهله العدو وقتًا لتأخذ مداها من التأجج والسطوع، والأجمل من ذلك كله أنه كان مناضلًا حقيقيًا، ومات فقيرًا، وتلك ظاهرة في زمننا الملوَّث بالخلط بين الثروة والثورة… إنه رجل لم يتلوث بالمال، ولا بالسلطة، ولا بالغرور، وظل يمثل النقاء الثوري الحقيقي، فكان وطنيًا من نوع فريد، لم يعرف المساومة، ولا الرياء، ولا رقصة التانغو السياسية: خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء”.
وجهت غادة السمان من خلال مقدمتها نداءً إلى من بحوزته رسائلها لغسان: “نداء أشاركهم فيه محبة غسان، وأرجوهم جعل حلم نشر رسائلنا معًا ممكنًا، كي لا تصدر رسائل غسان وحدها حاملة أحد وجوه الحقيقة فقط، بدلًا من وجهيها… وأنا، والحق يُقال، لا أدري أين رسائلي إليه… كل ما أعرفه هو أن تلك الرسائل العتيقة لم تعد ملكًا لأحد، وإنما تخص القارئ العربي كجزء من واقعه الأدبي والفكري، على لسان مجنونيّ حبر، صار أحدهما غبارًا مضيئًا منذ عقدين من الزمن، وتستعد الأخرى لمهرجان التراب منذ ولادتها… إنها رسائل تدخل في باب الوثائق الأدبية أكثر مما تدخل في باب الرسائل الشخصية، بعدما انقضى أكثر من ربع قرن على كتابتها، فخرجت من الخاص إلى العام، باستشهاد صاحبها”.
أدب الرسائل
يصف د. الناقد محمد عبد القادر العلاقة بين غسان كنفاني وغادة السمان في كتابه غسان كنفاني: جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية: “إنها حالة من التوأمة الإنسانية والأدبية التي اتحدت بين كاتبين جمعتهما اهتمامات مشتركة، وأمزجة متقاربة. كان تمسك غسان بحبه لها اعترافًا منه بأنها ركيزة هامة من ركائز استمراره متوازنًا في تلك الأيام، ورافدًا يمده بطاقة متجددة للكتابة والإبداع، مثلما كان هو مصدر إيحاء لها بشخصيته النادرة التي عرفتها أكثر مما عرفها كثيرون، وما وجدت غضاضة لنشر غادة لرسائل غسان لها، ذلك أنها أضاءت جوانب من العالم الإنساني الداخلي لغسان كنفاني، وكشفت مدى صدقه وشفافيته.
وقد قُرئت إحدى رسائل غسان لغادة في مقرر اللغة العربية للصف الثامن في المناهج اللبنانية، وهذا يعني اعتراف المجتمع الأدبي والتربوي برسائل غسان إلى غادة السمان، باعتبارها نموذجًا تعبيريًا يحمل سمات أدب الاعترافات، أو أدب البوح، أو أدب الرسائل، أياً كانت التسميات.
الثائر الحقيقي
يُعد كتاب رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان من أشهر الكتب الأدبية في الوطن العربي، التي ظلت شاهدة على قصة حب خُلِّدت بعد أن رحل أصحابها. وتذكر غادة السمان أنها لم تستطع أن تنشر جميع الرسائل؛ إذ حرقت بعضها، إثر حريق تعرض له منزلها ببيروت عام 1968.
تعرف غسان كنفاني على غادة السمان في جامعة دمشق، ثم التقيا بعد ذلك في القاهرة، وفي تلك الليلة قال لها غسان: “مالك؟ كطفلة ريفية تدخل المدينة أول مرة؟”، ومنذ تلك الليلة، توثقت علاقتهما في عدة دول عربية، وعاشا علاقة حب لم يسبق لها مثيل، ليتبادلا بعدها رسائل كانت ثمرة هذه العلاقة، والتي نشرتها عام 1992 ضمن كتاب في ذكرى استشهاد غسان كنفاني.
بقي أن نقول إنه حينما سُئل جيفارا: ما هي أهم ميزة في الثائر؟
أجاب: “الحب… الثائر الحقيقي يقوده شعور عظيم من الحب، حب الإنسانية، والعدالة، والحقيقة. من المستحيل تصور ثائرٍ أصيل دون هذه الميزة تحديدًا”.