سعد الشباب
في قلب الإنسان البشري، تتصارع قوى كثيرة. لكن هناك ثلاث قوى، إذا اجتمعت وتفاعلت فيما بينها، فإنها ترفع الروح، وتُسكِّن القلب، وتمنح الحياة معناها الحقيقي. هذه القوى هي: الشغف، والأخلاق، والحرية. إنها ليست مجرد كلمات أو مفاهيم عابرة، بل هي ركائز الوجود الإنساني، وأعمدة الكرامة البشرية.
الشغف هو الشرارة الأولى، تلك النار التي تضيء داخل الإنسان طريقًا لا يُرغم عليه، بل يُقبل عليه بكامل روحه. إنه التوق الداخلي نحو شيء نحبه، نريده، ونؤمن به. هو ما يجعلنا نتمسك بالأمل وسط الألم، ويمنح لحياتنا نبضًا خاصًا. إن الشغف هو تلك الحركة التي تنهض بالإنسان نحو ذاته، وتدفعه لأن يطمح إلى ما يريد، لا إلى ما يُفرض عليه. لكن الشغف وحده، حين ينفصل عن القيم، قد يتحول إلى طاقة مدمّرة: إلى نرجسية، أو أنانية، أو تعصب أعمى باسم الهدف. من هنا، يأتي دور الأخلاق.
فالأخلاق لا ينبغي أن تُفهم على أنها قيد خارجي يُكبّل الإنسان، بل هي بوصلة داخلية، تحفظ التوازن، وتوجه الشغف نحو ما هو إنساني وبنّاء. فالشغف إذا لم يُضبط بمنظومة قيم، قد يقود صاحبه إلى الظلم، حتى وإن ظن أنه يسعى إلى هدف نبيل. أما إذا اقترن الشغف بالأخلاق، فإن الفعل يصبح نبيلاً، والإبداع مسؤولاً، والموقف بناءً. فالأخلاق تهذّب الشغف، وتمنحه بعدًا إنسانيًا وواجبًا أخلاقيًا، وترتقي به من مجرد رغبة شخصية إلى رسالة كبرى تتجاوز الذات. ولهذا، لا ينبغي أن تكون الأخلاق مدفوعة بالمنفعة أو الخوف، بل يجب أن تكون بدافع الواجب والمسؤولية الأخلاقية، كما أكّد على ذلك الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي ربط الأخلاق بالإرادة الحرة. كذلك، آمن المفكر الجزائري مالك بن نبي بأن النهضة لا يمكن أن تنطلق إلا من قاعدة أخلاقية صلبة، إذ قال: “لا يمكن أن نبني حضارة بأجساد أنهكها الاستعمار، ولا بأرواح فقدت بوصلتها الأخلاقية.
لكن لا شغف حقيقي، ولا التزام أخلاقي، من دون حرية. فالحريّة هي الأرض التي تنبت فيها هذه القيم. هي أن تختار شغفك بنفسك دون إكراه، وأن تلتزم أخلاقك عن قناعة، لا عن خوف من العقاب. الحريّة ليست فوضى، بل وعي بالمسؤولية، وشجاعة اتخاذ القرار، والقدرة على تحمّل نتائجه. وهنا يتجلّى موقف الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، الذي قال: “الحرية ليست أن تفعل ما تشاء، بل أن تفهم لماذا تفعل ما تشاء.”
ومن خلال هذه المفاهيم الثلاثة: الشغف، والأخلاق، والحرية، نلاحظ أن الشغف هو ما يدفعنا للحركة، وأن الأخلاق هي ما ترشد هذه الحركة، وأن الحرية هي ما تتيح لهذه الحركة أن تتحقق. فمن دون شغف، نحيا دون إرادة، ومن دون أخلاق، نؤذي أنفسنا والآخرين، ومن دون حرية، نصير مقيدين بلا قدرة على اتخاذ القرار أو توجيه الذات.
لكن حين تجتمع هذه القوى الثلاث في قلب الإنسان، فإنه يملك من القوة ما يكفي لتغيير نفسه ومحيطه. غير أننا، في واقعنا المعاصر، نلاحظ اختلالًا في هذا التوازن. فكثير من الناس يعيشون ضمن قوة واحدة: فإما أن يكون الإنسان شغوفًا، لكنه بلا أخلاق ولا وعي بالحرية، فيتحول شغفه إلى دمار. أو أن يكون أخلاقيًا، لكنه بلا شغف، فيعيش جامدًا. أو أن يدّعي الحرية، لكنه يمارسها دون مسؤولية، فتتحول إلى فوضى.من هنا، علينا أن نستعيد هذا التوازن العميق بين الشغف، والأخلاق، والحرية، لأن هذا التفاعل الثلاثي هو ما يُعيد للإنسان إنسانيته، ويمنحه معنى الوجود والكرامة.