بقلم :هدى بن الغالية
فن الحناء ليس مجرد تزيين مؤقت على اليدين أو القدمين، بل هو إرث حيّ يعكس وجهاً من وجوه الثقافة الشعبية المغربية والعربية، ويُجسّد علاقة النساء بالجمال، بالرمز، وبالذاكرة. في المجتمعات التقليدية، لا تزال ليلة الحناء واحدة من أهم الطقوس المرتبطة بالفرح، خاصة في الأعراس، حيث تتزين العروس بنقوش دقيقة تُعتبر تمهيدًا لمرحلة جديدة من حياتها. لكن الحناء لا تخص فقط العروس، بل تمسّ جميع النساء، صغيرات كنّ أو كبيرات، وتظهر في المواسم، الأعياد، واللقاءات العائلية، حيث تتحوّل إلى لحظة احتفال أنثوي، فيه من الطقوس والدفء ما لا يوجد في كثير من مظاهر الحياة اليومية. هذا الفن، الذي يُمارَس عادة بأيادٍ نسائية خبيرة، يُجسّد تواصلاً غير معلن بين الأجيال، حيث تنقل الجدّة أسرار العجينة والنقش للحفيدة، دون كتب أو شروحات، فقط بالعين واليد والذاكرة. النساء اللائي يشتغلن في هذا المجال يعرفن جيدًا رمزية الأشكال: الزهرة رمز للخصوبة، الهلال رمز للحماية، والدوائر المتكررة تشير إلى الوحدة والاكتمال. بعض النقوش تكون عفوية، وبعضها الآخر محكوم بتقليد صارم، خاصة في المناسبات الكبرى.
في المناطق القروية، يُمزج مسحوق الحناء بالزعفران، والقرنفل، وعصير الليمون، ليُعطي لونًا غنيًا يدوم أكثر، وتُغطّى اليد بعد النقش بقطعة قماش أو بلاستيك، لتحتفظ بالنقش حتى يثبت. ورغم بساطة الأدوات، إلا أن النتيجة غالبًا ما تكون مدهشة: خطوط دقيقة، أشكال متشابكة، وأنماط تُشبه النسيج أو الزليج المغربي، كأنّ اليد نفسها تحوّلت إلى قطعة فنية. الحناية، وهي السيدة التي تقوم بالنقش، ليست مجرد عاملة، بل فنانة تشتغل بصبر ودقة، وتُصغي إلى رغبة الزبونة، وتُضيف من خبرتها لتُنتج عملاً يليق بالمناسبة.
لكن مع مرور الوقت، بدأت ملامح التغيير تتسلل إلى هذا الفن. فأصبح هناك حناء هندية وسودانية وخليجية، تحمل أنماطًا مختلفة وتقنيات جديدة. كما ظهرت الحناء البيضاء والذهبية، وبدأت بعض الفتيات يطلبن نقوشًا مستوحاة من الرسوم العصرية أو الرموز الأجنبية. هذا لا يعني بالضرورة أن الحناء التقليدية في طريقها إلى الزوال، بل إنها تدخل الآن مرحلة من التمازج بين التراث والتجديد. العديد من الحنايات الشابات أصبحن يروّجن لأعمالهن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويُقدمن تصاميم متنوعة تجمع بين الجذور والتطور، مما ساهم في إعادة إحياء هذا الفن لدى جيل جديد.
مع ذلك، لا يزال هناك تحديات حقيقية تهدّد هذا الفن الشعبي. فالكثير من الحنايات يعملن في ظروف غير مهنية، دون حماية اجتماعية أو اعتراف رسمي بمهنتهن كصاحبات حرفة فنية. كما أن غياب التكوين المنهجي، والإطار القانوني، يجعل هذا الفن عُرضة للتشويه أو الاستغلال التجاري السطحي. رغم ذلك، فإن الحناء تظلُّ حاضرة بقوة في الذاكرة الجمعية، وفي تفاصيل الحياة اليومية، وكأنها تحكي بلغة النقش ما تعجز الكلمات عن قوله.
الحناء ليست مجرد زينة، بل خطاب بصري، ونوع من الشعر الصامت الذي يُكتب على الجسد ليروي شيئًا من الفرح، من الأمل، ومن الحنين. إنها لغة النساء حين يتحدّثن عبر الأشكال والروائح واللمسات، وهي، رغم بساطتها، تحفة فنية متحرّكة، لا تقلّ جمالًا أو عمقًا عن أي لوحة تُعلّق في متحف. ولهذا، فإن حفظ هذا الفن، ودعمه، وتعليمه للأجيال القادمة، ليس فقط حفاظًا على تقليد قديم، بل حماية لهوية كاملة تُختصر في خط صغير من الحناء… على كفّ امرأة.