مواضيع ذات صلة

“ريد” حين يصبح الحلم تهمة

بقلم: فاطمة الزهراء سهلاوي

في عرض صادم ومحمّل بالدلالات في مركبات الدار البيضاء عروسة المسرح ، قدّمت فرقة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية مسرحية “Red” ضمن فعاليات الدورة 37 للمهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدار البيضاء، مساء السبت 12 يوليوز 2025. عرضٌ مسرحيّ مكثف يُسلّط الضوء على ما يشبه “الجرائم المقننة” في حق الإنسان، حين يُدان فقط لأنه حلم أو طالب بحقه.
مسرح خلف الجدران و وجع بلا أقنعة، تدور أحداث المسرحية في فضاء بصري ضيق، تهيمن عليه الألوان الرمزية: الأحمر القاني الذي لا يرمز فقط للدم أو الثورة، بل يتحول إلى صرخة دموية في وجه واقع يخنق الكرامة، إلى جانب الأصفر الباهت الذي يلوّن المشهد بالكآبة والشك والخوف من المستقبل.


ديكور العمل لا يتعدى حبلين وأقنعة، لكنّ معانيهما تصرخ في وجه المتلقي: الحبلان كرمز للتهديد الدائم بالموت أو الإلغاء، والأقنعة كتجسيد لفقدان الذات وسط مجتمعات تُرغم الفرد على الاختباء خلف واجهات كاذبة.
طموح يُحاكم، وحياة تُختصر في “السجن” بشخصيتين نايف و فارس يرتديان زيّ المساجين البرتقالي العاكس الى حياة سجن ، وصوت قاضٍ لا يظهر جسديًا بل يُلقي بأحكامه ببرود من خلف المجهول . تبدأ المحاكمة بسخرية معبرا أن السجن المؤبد، ثم الحكم الأكثر عبثية “الحياة مدى السجن”. عبارةٌ تقلب المنطق، وتكشف أن الإنسان لا يُعاقب هنا على جرم ارتكبه، بل على أحلامه، على إيمانه بنفسه، على رفضه أن يكون رقماً في منظومة ترفض التفكير ،أن يعيش ذاته القاضي – الذي لا يُجسّد إلا الصوت – ينزع عن المسجونين كل شيء: الطموح، الأمل، وحتى الرغبة. وكأن القانون نفسه صار أداة لترسيخ الإذلال، لا لتحقيق العدالة، و ينفي حقوق الحياة “أنا الأستاذ”: لحظة صراخ ضد الصمت، معاناة تتواجد في كل المدارس من أكثر لحظات العرض قوة، تلك التي اخترق فيها أحد الممثلين جدار المسرح، واقترب من الجمهور ليصرخ: “أنا الإنسان… أنا الأستاذ… كرامتي ليست رفاهية!” صرخة تجمّع في داخلها صوت آلاف من المعلمين والمثقفين والناس البسطاء، الذين يُطلب منهم الصمت والرضا، بينما تُداس كرامتهم يوميًا تحت شعارات زائفة.
خلع الممثل زيه المسرحي بعصبية، وعاد إلى الخشبة في لحظة تجلٍّ درامي تعبّر عن الانهيار النفسي والخيبة التي تطال من اختاروا طريق الفكر والمعرفة، و هو حدث يعبر عن قسوة الخدلان الذي وصلت إليه كرامة الأستاذ، عبث الواقع، حيث الحلم يُطف، مواقف المسرحية تتصاعد نحو الجنون، إذ يدخل الممثلان في نوبات هلوسة تعكس تكرار المعاناة اليومية. يحكي أحدهما لأمه عن والده الذي قضى عمره يعمل بشرف، ثم سُجن لأنه طالب بحقه. لا يسكن الألم هنا الجسد فقط، بل يسكن الذاكرة والوعي واللغة.
في لحظة شديدة الإنسانية، يكشف أحد المتهمَين عن حاجته العميقة لأن يُفهَم، لا أن يُدان. يبحث عن معنى لآلامه، عن صوت يسمعه دون حكم مسبق. يتخيّل نفسه أمام طبيب نفسي، شخص يُفترض أن يساعده على تفكيك ما يعتمل بداخله من وجعٍ وأفكار مشوشة. لكن حتى هذا الطبيب، حتى هذا الأمل في الفهم، يتلاشى تدريجيًا، لأن المعاناة في نهاية المطاف لا تأتي من عقد نفسية أو صراعات داخلية، بل من واقع خارجي متسلط، من قانون لا يُعالج الإنسان بل يُجرّده من حريته وكرامته، ويختزل ألمه في بنود ونُظم لا قلب لها.
كانت لحظة موجعة، تُجسّد فشل كل محاولات الفهم في مجتمع لا يرى الإنسان، بل يرى فقط المتّهم. في عالم المسرحية، لا توجد فرصة للعيش بكرامة دون ثمن. إما أن تخضع وتنحني، أو تُتهم بالتمرد والغباء. الجريمة الكبرى في هذا الواقع؟ أن تحلم علنًا.
خاتمة العرض، بداية الأسئلة
“Red” ليست مسرحية للفرجة فقط، بل دعوة للتفكير، للغضب، وربما للمساءلة:
من يحاكم من؟
من يملك الحق في انتزاع حلم إنسان؟
وأي قانون هذا الذي يُكافئ التنازل ويُعاقب الطموح؟

بأداء صادق، وطرح فني مقتضب لكنه عميق، تترك فرقة المحمدية جمهورها أمام أسئلة حارقة، دون إجابات جاهزة.
في النهاية يصلنا خطاب أن السجن جدرانًا، بل من الممكن أن يكون ذلك الواقع الذي يجرّم الطموح، ويُقصي الكرامة، باسم النظام أو الاستقرار.