بقلم : آية الحمري
في مساء يوم السبت 12 يوليوز 2025، وفي إطار فعاليات الدورة 37 من المهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدار البيضاء، احتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء، عرضًا غريبًا، جريئًا، وعميقًا بعنوان “فتيات كاريفونيا “، من تقديم فرقة مسرحية ألمانية، شكّل العرض لحظة مسرحية مفاجئة لجمهور متعطّش لأساليب جديدة في الحكي المسرحي.
ثلاث شخصيات… في عزلة غريبة عن العالم

يظهر على الخشبة شاب وفتاتان، يعيشون في عالم يبدو غير متصل تمامًا بالواقع. تصرفاتهم، حواراتهم، وحتى نكاتهم، تنتمي لعوالم عقلية أو نفسية مضطربة، وكأن العرض يدور داخل عقل الإنسان حين يفقد توازنه مع الواقع.
منذ لحظة دخول الشاب مصطحبًا معه فرنًا كهربائيًا صغيرًا، تبدأ الفتاتان بالتفاعل معه وكأنهما تريان هذه الأداة لأول مرة، في سلوك يعكس الدهشة البدائية التي تُصوّر انفصال الشخصيات عن الواقع اليومي المألوف.
بين الفضاء والأمواج… الواقع يصبح خيالًا
إحدى الشخصيتين تدّعي أنها زارت الفضاء وأكلت الفشار هناك، وكان طعمه يشبه طعم الثلاجة، المكان البارد في منأى عن الدفء و المشاعر . صورة سريالية مدهشة، تتكرس كلّما فتحوا باب المايكروويف، حيث لا ينطلق الضوء أو الحرارة، بل صوت إذاعة موسيقية تبث أغنية أميركية شهيرة يُعتقد أنها “The Beach Boys” المرتبطة بثقافة كاليفورنيا، الشواطئ، الحلم الأميركي، واللاواقعية المفرطة.
المسرحية هنا تمارس لعبة ذكية: مزج عناصر الحياة اليومية العادية مع خيالات مشوشة، ثم إعادة تقديمها عبر صور مسرحية مشبعة بالسخرية والنقد.
أفعى الصحراء ونكتة الموت
من أكثر لحظات العرض غرابة وإثارة كانت قصة إحدى الفتاتين عن أفعى ناطقة ورجل اسمه Nate، الذي يخوض رحلة طويلة ويصادف عنصرًا لامعًا تحذر الأفعى من لمسه. حين يموت Nate في نهاية القصة، تختتمها الأفعى بعبارة : “Better late than never”
وهي جملة إنجليزية تُلعب فيها الكلمات لتبدو كأنها: “Better late than never”، لكن بإدخال اسم Nate تصبح نكتة سوداء على حساب موته.
رغم ضحك الفتاتين، يغضب الشاب، معبرًا عن رفضه لاستخدام الموت كمادة للضحك، مما يعكس صراعًا داخليًا بين الحساسية الإنسانية والسخرية العابثة، بين الجدية واللامبالاة.
حادث السيارة… عندما يصبح الإنكار وسيلة بقاء
مشهد آخر قوي يظهر حين تكون الشخصيتان داخل سيارة، وتتحديان بعضهما في رفع السرعة وسط المطر، ليحدث حادث مروري فجائي يُصوَّر باللون الأحمر والصوت الصاخب. ورغم الرعب، تُشجع إحداهما الأخرى على “الاستمرار وكأن شيئًا لم يحدث”، في تجسيد واضح لفكرة الإنكار والهروب من المسؤولية.
بين العبث والواقع
مسرحية “California Girls” ليست حكاية تقليدية. هي تجربة أدائية تلعب على الحافة بين الجنون والواقع، بين الحلم الأميركي وكوابيس العزلة، بين النكتة والمأساة.
إنها عمل يعكس تيارات المسرح العبثي ومسرح ما بعد الحداثة، حيث لا يسعى النص لشرح الواقع، بل لتفكيكه وخلخلته، أحيانًا عبر الضحك، وأحيانًا عبر الانزعاج.
بمزيج من الأداء المتمكن، النص الحواري العبثي، والتقنيات البصرية البسيطة لكنها فعالة، نجح الفريق الألماني في تقديم عرضٍ يُجبر الجمهور على إعادة التفكير في جدية الواقع، وسخريته في آن معًا.
يُصنَّف عرض California Girls ضمن ما يُعرف بـ المسرح العبثي، وهو نوع مسرحي وُلد من رحم الأزمات الوجودية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ويعبّر عن التيه الإنساني في عالم فقد معناه. لا يسعى هذا المسرح إلى تقديم حبكة تقليدية أو رسائل مباشرة، بل يركّز على الغرابة، التكرار، السخرية السوداء، وانهيار اللغة بوصفها أداة فاشلة للتواصل. في هذا الإطار، تصبح الشخصيات كائنات تائهة، تتحدث كثيرًا لتقول لا شيء، وتكرر حركاتها في دورة عبثية لا تنتهي، وكأنها تسير في فراغ بلا بداية أو نهاية.
تجسّد هذه الرؤية العبارة التي تلخّص جوهر هذا المسرح: “يبحث الإنسان عن معنى…في عالم لا معنى له”