بقلم : هدى بن الغالية.
في قلب مدينة الدار البيضاء النابض بالحياة، حيث تتعانق الأضواء مع نبض الشوارع، وتتمازج رائحة التاريخ مع نسمات المحيط الأطلسي، عاشت العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية لحظات استثنائية مع انطلاق فعاليات الدورة السابعة والثلاثين للمهرجان الدولي للمسرح الجامعي. من 10 إلى 15 يوليوز 2025، هذا الحدث الفني الراسخ في وجدان المسرحيين والطلبة على حد سواء، شكل على مدى سنوات جسرًا متينًا للتواصل الفني والثقافي بين شباب العالم، وفضاء حراً للتعبير عن الأحلام، الهواجس، والهموم المشتركة بلغة الخشبة وأسرار الأداء.
افتتحت الدورة وسط حضور جماهيري غفير، امتزج فيه الطلبة والمبدعون، الباحثون والنقاد، وأبناء المدينة، جميعهم توحدوا حول شغف المسرح، ورغبتهم في استعادة سحره وألقه. أقيم حفل الافتتاح بالمركب الثقافي مولاي رشيد، تلك المؤسسة العريقة التي ظلت على مدى العقود ترعى هذا المهرجان، وتفتح أبوابها لاحتضان الطاقات الشابة القادمة من مختلف أصقاع العالم. وقد جاء اختيار شعار هذه الدورة «المسرح والدبلوماسية الفنية والثقافية» ليعكس وعي اللجنة المنظمة بأن المسرح لم يعد مجرد فعل فني داخل قاعة مغلقة، بل صار وسيلة حضارية متقدمة لتقريب الشعوب، وتكريس قيم الحوار والتسامح، وجعل الفن أداة للتقارب بين الحضارات المختلفة.
انطلقت الدورة يوم العاشر من يوليوز بحفل افتتاح رسمي ساده دفء الكلمة ورحابة الإبداع. تحدث خلاله عامل عمالة مولاي رشيد، مبرزًا الدور الريادي الذي يلعبه المهرجان في تعزيز صورة المغرب كوجهة ثقافية، ومشيدًا بمساهمته في تكوين أجيال من الشباب المبدع، القادر على الدفاع عن قيم الفن والحياة. كما عبر رئيس الجامعة، وعدد من الأساتذة والمسرحيين الدوليين، عن اعتزازهم باستمرار هذا الموعد السنوي، الذي غدا علامة مضيئة في الأجندة الثقافية ليس فقط محليًا، بل وعربيًا ودوليًا، وكانت كلمة السيدة عميدة كلية الآداب بنمسيك، رئيسة المهرجان، احتفالية بعرس مسرحي دولي حول الدار البيضاء إلى عاصمة فنية خلال أسبوع.
وقد جسد العرض الافتتاحي، الذي قدمته فرقة مسرحية من ايطاليا، ملامح التجدد الفني الذي تطمح إليه هذه التظاهرة، من خلال نصوص غنية بالدلالات، أداء مفعم بالحيوية، ورؤية إخراجية تمزج بين الرمزية والتجريب، في محاولة لصناعة عرض عابر للحدود اللغوية والثقافية، على امتداد أيام المهرجان، توالت العروض المسرحية في فضاءات متعددة، مثل قاعة عبد الله العروي بكلية الآداب بنمسيك، مسرح مولاي رشيد، مسرح بنمسيك، ومسرح سيدي بليوط، واستوديو الفنون الحية، مما أتاح للجمهور عبر رقعة بيضاوية موسعة فرصة الاطلاع على تجارب فنية متنوعة، والاقتراب من نبض الجامعات الوطنية والدوليو، التي تلتقي لتحكي قصصها على خشبة المسرح الجامعي.
قدمت الجامعات المغربية خمسة عروض مسرحية متميزة، كل منها يحمل نكهته الخاصة. من بينها مسرحية «دوي» لكلية العلوم بنمسيك، التي تناولت بأسلوب فلسفي إشكالية الصمت والبوح، مقدمة نصاً شاعريًا متدفقًا، أعاد صياغة العلاقة بين الممثل والجمهور. في المقابل، جاءت مسرحية «الريح» من كلية العلوم القانونية بمراكش، لتجسد صراع الإنسان مع الطبيعة، مستلهمة من التراث المغربي حكايات وأساطير أعيد تقديمها بروح معاصرة، ما جعل العرض يبدو كأنه حوار بين الأزمنة، كما جذبت مسرحية «منامات جحجوحة» القادمة من كلية اللغات بسطات اهتمام النقاد والجمهور، بما تضمنته من أبعاد صوفية وفلسفية، حول مفهوم الحلم والهروب من الواقع، وتلك المسافة الغامضة بين الحلم واليقظة. بينما قدمت كلية الآداب عين الشق عملها «التعاسة والعقل»، في معالجة درامية نفسية عميقة، ناقشت فيها موضوع العقل كأداة للتحرر أو كقيد يحد من انطلاق الإنسان. أما مسرحية «ريد» لكلية المحمدية، فقد تميزت بطابعها الحركي، حيث اشتغل الممثلون على الجسد كوسيلة رئيسية للتعبير، بعيدًا عن الثقل النصي، في عرض حمل بعدًا شعريًا خالصًا.
من جانب آخر، قدمت الفرق الدولية عروضاً قوية ومتنوعة، إذ حضرت ألمانيا بعرضين مختلفين هما «فتيات كاليفورنيا» و«رجال في العمل»، اللذان عالجا قضايا اجتماعية معاصرة بأسلوب واقعي جريء، يعكس مدارس المسرح الألماني الحديثة. وأبدعت أرمينيا بمسرحية «الدرس»، التي سلطت الضوء على العلاقة بين السلطة والفكر، من خلال حبكة ذكية وأداء مكثف. أما إيطاليا، فقد أطلت على الجمهور المغربي بمسرحية «قصص رائعة لبقية الحياة»، التي عبرت عن فلسفة العيش والبحث عن المعنى، وكذلك عرض «أغنية الذعر» الذي قدم بأسلوب تجريبي، دمج بين الموسيقى والأداء الحركي، فشكل تجربة بصرية وصوتية مدهشة، تجاوزت حدود المسرح التقليدي.
ولم يقتصر المهرجان على العروض المسرحية فقط، بل خصص حيزًا مهمًا للورشات التكوينية، التي شهدت إقبالاً كبيرًا من الطلبة والمهتمين، أطرتها خبرات دوليو. تناولت هذه الورش موضوعات متنوعة مثل «تقنيات مسرح الصورة»، «فن القناع»، «التعبير الجسدي والتحول»، و«البحث في العلاقة بين الجسد والفضاء المسرحي». وقد أكد المشاركون في هذه الورش أن التجربة أتاحت لهم فرصة نادرة للتعرف عن قرب على مدارس فنية مختلفة، واكتساب أدوات جديدة تعزز إمكانياتهم الإبداعية.
اختار المهرجان أن يكرم خلال هذه الدورة شخصيتين بارزتين، هما الفنان الكبير عبد المجيد فنيش، الذي اعتبرته اللجنة المنظمة رمزًا للعطاء المسرحي والإعلامي، تقديرًا لمسيرته الطويلة ودوره في ترسيخ قيم المسرح الجاد والملتزم. وكذلك الإعلامية المتميزة نزهة الإدريسي، التي عرفت بمساهمتها في تغطية المشهد الثقافي المغربي، وإبراز جماليات الفنون بمهنية وصدق.
تخللت أيام المهرجان أجواء احتفالية امتدت إلى الفضاءات العامة والمقاهي الثقافية، حيث كانت النقاشات تدور حول العروض، اختلاف المدارس، والرهانات الجمالية والفكرية لكل عمل. وقد عبر عدد من الضيوف القادمين من الخارج عن إعجابهم بالدفء المغربي وحسن الضيافة، كما أشادوا بالتنظيم المحكم والدقة في احترام المواعيد، ما يعكس مهنية عالية وقدرة استثنائية على إدارة حدث دولي بهذا الحجم.
واستطاع المهرجان في هذه الدورة أن يقدم صورة مشرقة عن قدرة الشباب المغربي على الإبداع والابتكار، حيث بدا واضحاً أن هؤلاء الطلبة لا يكتفون بتقليد المدارس الغربية أو الشرقية، بل يسعون إلى صياغة هويتهم الخاصة، والانطلاق في مغامرة مسرحية جديدة تدمج المحلي بالكوني، التراثي بالحديث، العفوي بالمدروس. وقد كان الجمهور بدوره شريكًا أساسيًا في نجاح التظاهرة، بفضل تفاعله، واهتمامه، وقراءاته النقدية الفورية بعد كل عرض، في مشهد نادر لا نراه إلا في التظاهرات المسرحية الكبرى.
واختتم المهرجان يوم 15 يوليوز 2025 ، حضره الفنانون، الطلبة، الضيوف، والمهتمون، ومعنيون ومسؤولون حيث عُرضت مقتطفات جماعية من الورش الفنية، قُدمت فيها مشاهد مرتجلة جمعت بين جميع المشاركين، في أجواء احتفالية حماسية. كما تم الإعلان عن الفرق الفائزة، وتوزيع الجوائز التي تراوحت بين أفضل نص، أفضل إخراج، أفضل ممثل وممثلة، وأفضل سينوغرافيا، وقد بدت السعادة واضحة على وجوه الفائزين، وهم يعتلون الخشبة وسط تصفيقات الجمهور. وعادت الجائزة الكبرى للمهرجان لأكاديمية الفنون المسرحية المدنية نيكو بيبي من إيطاليا، بعرضها المسرحي: قصص رائعة لبقية الحياة.
لقد أثبت المهرجان مرة أخرى أن المسرح، كفن جامع، قادر على مداواة الجراح، وتوحيد الرؤى، وإعادة الإنسان إلى جوهره البسيط: كائن يتواصل ويحلم ويثور ويحب. وجعل من الدار البيضاء، طيلة أيام المهرجان، مختبراً حيًّا للثقافة الحية، حيث اجتمعت الأصوات، والأجساد، والأضواء، لتنسج معًا ملحمة إنسانية، تترجم شغف الشباب بالمسرح، وإيمانهم العميق بقدرته على التغيير.
وربما كان من أجمل المشاهد التي ستظل راسخة في ذاكرة المشاركين، تلك اللحظة التي اجتمع فيها جميع الممثلين، من دول ولغات وثقافات متباعدة، في رقصة جماعية مرتجلة، كأنهم أرادوا من خلالها أن يبعثوا برسالة بسيطة للعالم: “نحن هنا، مختلفون في ألسنتنا وألواننا، لكننا متحدون في حبنا للفن، ورغبتنا في الحياة”.
وهكذا أسدل الستار على الدورة السابعة والثلاثين للمهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدار البيضاء، وهي تحمل في طياتها عبق القصص التي رُويت، والأحلام التي تفتحت، واللقاءات التي صنعت صداقات عابرة للحدود. دورة جديدة أكدت أن المسرح سيظل، مهما تغيرت الظروف والأزمنة، منبرًا حرًّا للتعبير، وجسراً متيناً يربط القلوب قبل العقول.