MA5TV الثقافية
شهادة من المخرج والسينمائي عبد الإله جواهري بتاريخ 28 يوليوز 2015 بمسرح عبد الرحيم بوعبيد على هامش تكريم الناقد حميد تباتو، ضمن فعاليات الدورة السابعة للجامعة الصيفية السينمائية بالمحمدية.
ذكاؤه الفطري وهدوءه العقلاني جعلا منه إنسانا استثنائيا، فهو ليس من النوع الصدامي في علاقاته اليومية بل وحتى في قضايا الفكر والتحالفات الإبداعية، كتابات وبحوث اتخذت منحى استثنائيا تستجيب للهواجس الجمالية المنشغلة بتأسيس خطابات إبداعية تتأسس على الجدة و الجدية ، انطلاقا من وعي فاعل مؤسس على مرتكزات وطنية بعيدة عن التزييف و الفلكلرة المرضية الزائفة ، ورافضة لمحاولات تسييد القبح الفني و تحويله إلى أخطبوط يتسلل إلى مسام واقعنا المغربي
وقفتي اليوم أمام مسار حميد تباتو ، مناسبة لتقديم شهادة صادقة ،مكرسة لمعانقة سيرة و مسيرة صديق صدوق ، فرض علينا أن نحبه لأخلاقه السامية و كتاباته النقدية المسافرة بين الهنا و الهناك ، بين الواضح الذي تحوم حوله أسراب الكتبة و الغامض المنزوي في الهامش ، مسرح الهامش و سينما الهامش ، أو لنقل الإبداعات المنسية المحاطة بسياج سميك من النسيان ، نسيان تاريخ تراثي أصيل و طاقات بشرية حقيقية تنتمي لهذا الوطن ، اهتمامه بثقافات الهامش لم تكن يوما مزايدة أو لغوا زائدا، بل موقفا و معاناة حقيقية من اجل ثقافة مغربية أصيلة .
لن أجول في عوالم المخيلة والرؤى والذات ، لأقول : الأب اشتغل هناك في البعيد على الأراضي الفرنسية، قبل أن يفارق الحياة تاركا زوجة في بادية الهامش ، تحضن الأولاد و تعلمهم معاني حب الأرض و قيمة الإنسان ..
إذا كان حميد وريثا لشيء من أجداده ، فإن ذلك يتمثل في الطموح الذي لا يعرف النهايات ، أرى له عزة الوالدين و تاريخ ملئ بالمفارقات ، مفارقات طفل يغادر البادية باتجاه مدينة صغيرة إسمها تاونات ، هناك ، تعلم بعضا من معاني الاعتماد على النفس و المجاهدة على البقاء حيا ، ليتدحرج بعد سنوات الإعدادي و الثانوي ، نحو الأزقة و الشوارع و الدروب الفاسية ، أتخيله وقتها مراهقا يدخل فاس من احد أكثر أبوابها شهرة ، باب الفتوح المشرع على التاريخ و الهوية المغربية ، ها هو يرتجف خوفا من شبح المدينة و قساوة الفاسيين مع الغرباء القادمين من الجبال الريفية ، أو ربما شوقا لحضارة إدريسية منقضية ، لكن خيالات كهذه تبدو لاغية ، لأن البدوي الذي كانه لم يخن يوما نسغ وروح البادية ، بسهولة عرف كيف يتآخى مع عوالم فاس القاسية ، استطاع أن يصنع لنفسه مكانا عاليا ، ذكاؤه الفطري و هدوءه العقلاني جعلا منه إنسانا استثنائيا ، فهو ليس من النوع الصدامي في علاقاته اليومية بل و حتى في قضايا الفكر و التحالفات الإبداعية ، شابا و رجلا كان و لا يزال ، شعاره تغليب الفكر على العاطفة و البحث عن القواسم المشتركة في العلاقة مع باقي الناس أكثر من البحث عن قضايا الخلاف ، لكن الإختلاف عن الآخرين و البحث عن التمايزات الثقافية و الفكرية ، قادته إلى معانقة عوالم قد تبدو للغير غرائبية ، ثقافة الهامش و المنسي الثقافي ، أو لنقل ، كل ما يؤصل الهوية المغربية ، و عبرها الانتصار لهوية الإنسان كإنسان ،كتابات و بحوث اتخذت منحى استثنائيا تستجيب للهواجس الجمالية المنشغلة بتأسيس خطابات إبداعية تتأسس على الجدة و الجدية ، انطلاقا من وعي فاعل مؤسس على مرتكزات وطنية بعيدة عن التزييف و الفلكلرة المرضية الزائفة ، ورافضة لمحاولات تسييد القبح الفني و تحويله إلى أخطبوط يتسلل إلى مسام واقعنا المغربي ….
الكاتب والناقد الينمائي حميد تباتو
هاكم فيما يشبه الحكاية التي قد تكون الذات الساردة تمنح لنفسها شرف الحديث عن تاريخ مسار سينمائي جمعوي مغربي مثير ، شرف قد لا تستحقه بالنظر لوجود العديد من الأصدقاء و الرفاق و الإخوة الذين يستحقون فعلا أن يقدموا، بدلا مني شهادات أكثر صدقية، لقربهم و مكانتهم من قلب حميد ..
فاس الروح و الوجدان ، كانت فضاء اللقاء الأول ، إلتقيته ، هكذا و دون سابق معرفة وسط الحرم الجامعي ، بدا لي أول الأمر تائها ، أو لأقل ، نظرات عينيه كانت تائهة ، نظرات لم استطع فهم كنهها ، حيث اعتقدت وقتها ، أنها مجرد سذاجة القادم من الأفق البعيد ، من وراء أسوار المدينة العالية ، لكن مع مرور الأيام وتعدد اللقاءات ، اكتشفت أنني الساذج ، لم تكن نظراته الساهمة ، سوى تمعن و تأمل في عمق الأشياء و الموجودات ، تحاول بكل ذكاء اختراق ما لا يرى ، أو لنقل عنوان لذكاء متوقد حاد .. أذكر يوما جاءني باحثا عن كتاب ” الفلاح في السينما العربية ” ، ( بربكم هل جاءكم ،حميد يوما باحثا عن شيء ، غير البحث عن كتاب ؟ ” ) . تجاذبنا وقتها حديثا مطولا ، فإخترق مشاغف الروح و الفؤاد، راهنت و ما خسرت الرهان ، شاب قادر على ضخ دماء القوة و الحياة في مجموعتنا الطامحة لتأسيس ” نادي الركاب للسينما و الثقافة ” ، فكان ما كان ، أصبح واحدا منا ، بل أكثرنا حماسة و اشتغالا و تحملا للمسؤوليات ..
مرت الأيام والشهور ، نحن نعمل على تكريس الثقافة السينمائية في الأزقة الخلفية لمدينتنا الفاسية ، لكن الظروف المهنية ، دفعتني لمغادرة فاس باتجاه فضاء الطين المدكوك ورزازات ، تركته و الرفقة الطيبة هناك و ما انقطعت عني أخباره ، كان يقوي في العزم و يساعدني على التوحد مع الأمكنة الغريبة عني ، فما دام ” الهامشي ” قد استطاع اختراق قلب فاس ، كيف لإبن فاس ألا يخترق قلب الهامش … بنجاح حصل على الشهادات ، الواحدة تلو الأخرى ، و بدأت كتاباته تغطي المساحات الورقية بالجرائد و المجلات المغربية و العربية ، و أنا هناك في البعيد أحاول اللحاق ، أعود في العطل المدرسية لأجده حاضرا بقوة في المنتديات الثقافية و التجمعات النضالية ،استثمر علاقات إنسانية عميقة و حول شقته المنزوية في أحد أكثر الأحياء الشعبية إلى صالون أدبي بل مكتبة شعبية مفتوحة على وجوه الخلق و الإبداع ، لوحات و رسومات فطرية و عشرات الكتب و المراجع الحديثة و التراثية ، بساطة الأثاث عنوان للأصالة المغربية ، ورغم سنوات البطالة و العطالة المفروضة نتيجة سياسات لا وطنية ، الروح ما هزتها رياح الوهن العاتية ، ظل كما كان شجرا وارفا واقفا إلى جانب مجموع الأندية السينمائية الوطنية ، متنقلا بين المدن و القرى ، محاضرا و مساهما في تنشيط الجلسات الثقافية ، بل و كاتبا لمؤلفات نقدية و قراءات إبداعية ، كتب نذكر منها : ” السينما المغربية ، قضايا الإبداع و الهوية ” و ” السينما الوطنية بالمغرب ، أسئلة التأسيس و الوعي الفني ” مثلما ناقش قبلهما رسالة الدكتوراه ببحث تحت عنوان ” مواصفات الهوية في المسرح الاحترافي المغربي ” ، و رغم هذا التألق ، ظل كما هو صديقي و رفيقي في رحلتي بالروح و النجوى كما كنت رفيقه في كل ما يكتب أو يفعل ، معا تحملنا الصعاب و المسؤوليات في المكتب الجامعي لحركة الأندية ، كان ولا يزال رهاننا على أن الجامعة الوطنية للأندية السينمائية هي الحاملة لمشعل الثقافة الحقة ، وقف مرات عديدة بكل شجاعة و جرأة منتقدا و منتفضا في وجه القبح الفني و الفكري ، كان البعض يعتبرها مجرد مزايدات أو محاولات لتكريس بطولات واهية ، وحدي و معي بعض الأصدقاء ، كنا نعرف أريحيته الفكرية و الروحية و شجاعته في أن يقول و يفعل ما يؤمن به ، لا يلين بسهولة ، لأن المستقبل أكثر أهمية بالنسبة له من الماضي ، بل ومن الحاضر ، الحياة فجرت لديه طاقات إبداعية كامنة لأنها مليئة بالتحديات ، راهن دائما على الطهارة و الصفاء ، ظل واقفا لا يرف له جفن ، هو يتقدم و هم ( أعداء النور و مرتزقة الظلام ) يتراجعون ، يتراجعون و يتراجعون ..
رغم سنوات عديدة من الكفاح الثقافي و النضالي، ما آن لهذا الفارس أن يرتاح ، لأنه مطوق بالحب اليوم أكثر مما كان مطوقا به البارح، قلعة مكونة تشهد وتغسالين تشهد وورزازات تشهد، بل كل مناطق المملكة تشهد، على أن حميد مر، مرارا و تكرارا ، بنعال من ريح ، متأبطا شغفه العلمي والمعرفي، ناثرا الورود ورودا نهديها له في هذه الأمسية الباذخة كعربون محبة كتكريس لثقافة الاعتراف بالبساطة والروح الإنسانية الغامرة..
صدر لحميد تباتو العديد من الأعمال النقدية، مثل:
السينما المغربية: قضايا الإبداع والهوية (1999)
رهانات السينما المغربية: الفاعلية الإبداعية وتأصيل المتخيّل (2006)
هوية السينما المغربية: فتنة اللامرئي وقلق المغلوبين (2014)
أحدث كتبه “دلالات السينما المغربية: التأسيس الثقافة…