مواضيع ذات صلة

“آخر ليلة.. أول يوم”: البحث عن سوريا في العمق السوري

بقلم: آية الحمري

المقدمة: تأطير العمل وظلاله الاجتماعية والسياسية

عاد المسرح القومي السوري إلى الخشبة الوطنية بعد توقف طويل، عبر العرض الرسمي للمسرحية الجديدة «آخر ليلة.. أول يوم» للكاتب السوري جوان جان، على خشبة مسرح الحمراء بدمشق، تحت إشراف مديرية المسارح والموسيقى التابعة لوزارة الثقافة السورية.
جاءت مسرحية «آخر ليلة.. أول يوم» في لحظة حساسة من تاريخ سوريا، بعد تحرر البلاد من سنوات الصراع الطويلة وبداية عهد جديد مع تولي رئاسة جديدة. هذا السياق السياسي والاجتماعي الجديد أتاح للمسرح السوري فرصة استعادة أنفاسه والتعبير عن تجارب الحياة اليومية للمواطنين في زمن التحول والبناء. لذا قرأت المسرحية “آخر ليلة.. أول يوم” عبر رمزيتها وحوارها المركز على العلاقة الإنسانية، أنها تعكس حالة الانتظار والتأمل للمشهد الجديد الفصل المتجدد من تاريخ البلاد، حيث يسعى السوريون لإعادة بناء الذات عبر المرجعيات المؤسسة وسط تحديات الماضي وآمال المستقبل.
لم يكن العرض المسرحي مجرد حدث فني، بل رمز حي يعبر عن نبض سوريا الثقافي الذي يرنو إلى البقاء والتجدد، مؤكدا أن الفن والمسرح احتفالية بقاء وحياة رغم سنوات الأزمات والحصار الثقافي والسياسي التي شهدتها البلاد. في هذا السياق، اختار جوان جان الابتعاد عن التناول المباشر للأحداث السياسية المضطربة، وركز عن قضية من القضايا الإنسانية والاجتماعية التي تعكس التوترات اليومية في المجتمع السوري، مما أتاح للمسرحية أبعادا رمزية متعددة ومستويات تأويل تتفاعل معها الجماهير بعمق.

حوار افتراضي مع الكاتب والناقد المسرحي جوان جان


في ضوء تصريحات متفرقة للكاتب جوان جان أدلى بها عبر منابر مختلفة كـصحيفة الوطن أونلاين وموقع Syria Home News، وأخرى عبر تقرير مصوّر بثّته قناة أنا سوريا، نستحضر هذا الحوار الافتراضي الذي يحاول إعادة بناء رؤيته الفنية لمسرحية «آخر ليلة.. أول يوم» من خلال مؤلفها، وللإشارة الهدف من هذا الحوار ليس محاكاة حرفية لما ضرح به المؤلف، بل تقديم صورة أقرب لفكره المسرحي كما يمكن أن يُستشف من مجمل تصريحاته، في محاولة لتقريب القارئ من عمق مشروعه الإبداعي في هذا العمل تحديدًا.

س: لماذا اخترت هذه التيمة في هذه المرحلة بالذات؟


ج: النص كُتب قبل التحولات السياسية الكبرى، وأنا بطبيعتي أميل إلى الطرح الرمزي لأنه أكثر إنسانية وعمقاً. لا أحبذ المباشرية الفجة، لأنها قد تُبتذل الرسالة أو تُقيد التفاعل الحر للمُتلقي. المسرح بالنسبة لي ليس فقط مرآة للواقع، بل هو أيضاً مساحة لتأمل الذات والمجتمع. حتى لو أردت أن أكتب عن الأحداث الراهنة، سألتزم بالترميز لأن المسرح يخاطب الجميع، لا فئة بعينها.

س: هل ترى أن المسرحية تعبّر عن الحالة العامة للمجتمع السوري؟


ج: المسرحية تبدو في ظاهرها حوارًا بين زوجين في لحظة انفصال، لكنها في جوهرها تُجسد الصراعات التي تعيشها مجتمعاتنا: الانقسامات، التباينات، الأسئلة المعلقة حول العيش المشترك والتفاهم رغم الخلافات. نعم، أرى فيها صورة مصغّرة لسوريا. الإنسان السوري أنهكته الحرب، لكنه لا يزال يبحث عن المعنى، عن الحب، عن الاستمرارية.
س: ما الغاية التي سعيت من خلالها إلى كتابة هذا النص في هذه الصيغة؟
ج: أردت تقديم عمل يمكن أن يلامس الجمهور من خلال تفاصيله النفسية الدقيقة، لا من خلال الشعارات أو الخطابات. الصراعات الزوجية التي نراها في المسرحية ليست سوى تجلٍ لصراعات أكبر: بين الأمل واليأس، بين التغيير والجمود، بين من يريد أن يمضي قدماً ومن يخشى أن يفقد كل شيء.

س: وماذا عن الرسالة التي ترغب بإيصالها إلى الجمهور؟


ج: رسالتي بسيطة: الحب والتصالح ممكنان، حتى بعد التصدعات الكبيرة. الإنسان قادر على إعادة ترميم ذاته، شرط أن يعترف أولاً بجراحه. والمسرح، كأداة اجتماعية، يمنحنا هذه المساحة للتأمل والمكاشفة، بلا أقنعة.
وجدير بالذكر أن ثيمة المسرحية، التوتر الزوجي والخيبات اليومية؛ حيث تدور أحداثها في ليلة عيد الزواج الخامس لزوجين يقرران الانفصال صباح اليوم التالي، مما يعكس الصراع بين الحب والطموح والروتين القاتل.الرمزية تنطلق من العنوان «آخر ليلة.. أول يوم» يوحي بأن النهاية قد تكون بداية، وهو رمز للصراع الشخصي والجماعي في آنٍ معًا، ومن التيمات الحاضرة في المسرحية، التعايش الذي يحصل رغم الخلافات لترسل رسالة أعمق مفادها، قدرة الحب والمودة على ترميم العلاقات حتى بعد تراكم الخلافات، تمثيلًا للوحدة الممكنة في مجتمع يعاني الانقسام.

ردود فعل الجمهور والنقاد والمتتبعين:


وُصف العرض بأنه “خطوة رمزية نحو إحياء المشهد الثقافي في سوريا بعد سنوات من التوقف”، وقد أشاد النقاد بالحوار المشدود والتناسق بين المشاهد، مؤكدين أن الجمهور تفاعل مع أسلوب المسرحية الذي يمزج الواقعية الاجتماعية مع تقنيات المسرح العبثي. بعض النقاد لاحظوا أن أداء الممثلين رائد مشرف وعهد ديب ساهم بشكل كبير في خلق التوتر الدرامي والتوازن الكوميدي، مما منح المسرحية بعدًا إنسانيًا حقيقيًا، دون إغفال الأداء ااتشخيصي المتميز الذي جعل الصراعات الداخلية للزوجين ملموسة وشديدة الواقعية. المسرحية لم تكن مجرد عرض بل تجربة إنسانية تعبر عن واقع متشابك، فتذكرني بأن المسرح السوري ما زال حيا، نابضا بأحلام شعبه وتحدياتهم.
مسرحية «آخر ليلة.. أول يوم» تمثل إضافة هامة للمشهد المسرحي السوري، حيث استطاعت بذكاء أن تعكس عبر حوار بسيط وعامّي عمق العلاقات الإنسانية والتوترات اليومية التي يعيشها الإنسان في مجتمعه. اختيار الفضاء المحدود والمشهد الواحد عزز التركيز على التفاصيل النفسية والعاطفية بين الزوجين، مما جعل التجربة المسرحية شخصية وقريبة من الجمهور. هذا العمل يذكّرنا بأهمية المسرح كمرآة تعكس حياة الناس وهمومهم، ويبرز كيف يمكن للفن أن يستمر في النبش والبحث عن إنسانية الإنسان بكل أبعادها، حتى في أحلك الظروف.
رغم محاولات استعادة الحياة الثقافية في سوريا، تبقى البلاد تعاني من إشكالات طائفية وسياسية واجتماعية عميقة، خلفتها سنوات طويلة من الحرب والانقسام. إلا أن الهوية السورية الجامعة ما تزال حاضرة بقوة في وجدان معظم السوريين، الذين ينادون بأن الانتماء لسوريا يتسع لجميع الإثنيات والطوائف، ما يعكس رغبة حقيقية في بناء وطن يحتضن التعددية ويرفض الإقصاء، وطن بطل المواطنين ولكل المواطنين.
في هذا السياق، أتت مسرحية «آخر ليلة.. أول يوم» كرسالة أمل، وتجديد الإيمان بقوة الفن في تجاوز الانقسامات وإعادة ترميم الوعي الجمعي.