يصل المبدع الدكتور عبد الكريم برشيد، شيخ الاحتفالية بالمعنى التيار الفكري، إلى الورقة رقم 80 ويواصل تذكيرنا بمبادئ الاحتفالية وخطها الإبداعي، ونواصل النشر من معين هذا الفكر، وبالمناسبة أدعوا حركة النقد الحديث التفاعل مع هذه الورقة رقم 80 التي أراها خطة طريق تناقش الراهن وتتطلع للآتي.
MA5TV الثقافية
فاتحة الكلام : يقول الاحتفالي بانه في البدء كان الاختيار، وان فعل هذا الاختيار لا يمكن ان يكون إلا مخاطرة وجودية، قد تربح فيها ذاتك، وقد تخسر حاضرك و مستقبلك، من حيث تدري أو من حيث لا تدري، ولقد كان ضروريا بالنسبة لهذا الاحتفالي أن يختار، وان لا يتنازل عن حقه الطبيعي في الاختيار الحر، وذلك بحكم انه إنسان اولا، وان هذا الذي يسكنه هو إنسان عاقل ثانيا، وهو كائن بشري يحسن فعل التفكير الحر، ومن حسن حظه انه قد وجد نفسه، ومن حيث لا يدري، مواطنا حرا في وطن حر، أمام حزمة اختيارات متعددة ومتنوعة، ووجد قوة ما، في الطبيعة وفي الوجود وفي المجتمع، تحرضه على ان يختار وهي تقول له: كن أنت، كما تريد أنت، و اصنع فكرك الذي يشبهك انت، ولا يشبه اي احدا آخر غيرك، واسس الفن الذي يقنعك و يمتعك، ويمتع كل الناس من حولك، والذي يخاطب الناس بلغات الناس في كل زمان ومكان
تلك القوة العاقلة و الخلاقة، هي التي اعطتنا، في حياتنا وفي حياة فكرنا وفننا و علمنا، ها مشا معقولا من الحرية، ولقد عملنا دائما من اجل توسعة هذا الهامش، ومن اجل ان تكون حريتنا حرية عاقلة وجميلة و نبيلة و مسؤولة، كما عملنا من اجل أن نخرج فعل هذا الاختيار من درجة الجبر والضرورة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في كتاب ( انا الذي رايت ) ( فعل الاختيار ليس اختياريا، ولكنه إجباري) ولكن عندما نتبناه، وعن قناعة فكرية، فإنه لا يبقى فعلا اجباريا، ولكي يكون الإنسان نفسه وليس غيره، فإن عليه أن يختار وجوده، وأن يختار هويته، وأن يكون في مستوى أن يتحمل مسؤولية هذا الاختيار الوجودي الكبير و الخطير، وفي عشق هذه الحرية، وفي مديحها أيضا، يقول الاحتفالي، وفي نفس كتاب ( أنا الذي رأيت) يقول الاحتفالي ما يلي 🙂 (إنني أريد أن أكون مواطنا حرا، وذلك في وطن حر، وفي زمن يكون زمنا للحرية والانطلاق وللإبداع والخلق والاحتفال والتلاقي والشعر والفكر والعلم والحكمة، وأن أجد نفسي مكرما مع المكرمين، وألا أجد نفسي ضيفا على مائدة اللئام)
حرية المبدع بين الأسئلة الجوهرية والأسئلة الهامشية :بالنسبة للاحتفالي، فإن الأشياء إما ان تكون كاملة او لا تكون، وانصاف الحلول وانصاف الاختيارات وانصاف المواقف لا علاقة لها بالاختيارات الاحتفالية الحقيقية، ونعرف ان الاختيارات الأساسية في الفكر الاحتفالي يمثلها الحضور اساسا، اي ان نكون نحن الآن هنا، ويمثلها شرف الحضور ايضا، و يمثلها الإصرار على هذا الحضور، ويمثلها الصدق في العلاقات وتمثلها الجرأة في المواقف، و يمثلها التحدي امام الممكن والمحال،
ولعل اسوا كل الاختبارات، هي تلك الاختيارات العرجاء و البلهاء والناقصة و الغامضة و الرمادية، ولقد اخترنا نحن المسرح فعلا، او اختارنا هو، لست ادري، ومع ذلك اللعب التمثيلي الجاد، في فعل هذا المسرح الجاد، اخترنا الفكر المسرحي، واخترنا العلم المسرحي، واخترنا الفقه المسرحي، واخترنا الأخلاق المسرحية، واخترنا الآداب المسرحية، واخترنا المقاومة المسرحية، واخترنا المواقف المسرحية، واخترنا التحدي المسرحي، ولم نهتم في هذا المسرح بالحزبية السياسية، ولا بالتسييس، ولا بالتعليم ولا بالتحريض ولا بالتخوين ..
أما قضية الإبداع والحرية، كما تثيرهما الصحافة العربية اليوم، فتلك مسألة شرحها يطول جدا، وفيها من الشعارات أكثر مما فيها من المفاهيم المحكمة، وهي في أغلب الحالات قضية مفتعلة وغير بريئة، وانتماؤها للتوظيف السياسي العابر أوضح من انتمائها إلى القيم الإبداعية الثابتة، وبهذا فهي حدث وحديث عارضين، وليست سؤالا وجوديا حقيقيا، ولم يثبت في التاريخ أن المبدعين الكبار قد اشترطوا الحرية قبل أن ينخرطوا في الفعل الإبداعي، والقضية أكبر وأخطر من هذه الصورة السوريالية الغريبة بكل تاكيد
وأعتقد أن انخراط بعض الفنانين اليوم، في مثل هذا المطلب الغريب والعجيب، هو محاولة لتبرير بؤس العطاء الإبداعي لديهم، وهو هروب من مواجهة الحروب الحقيقية، في المواضيع و المضامين الحقيقية، إلى الأسئلة الجانبية و الهامشية، و أعتقد أن للنقد الفني (الجديد) نصيبه الكبير والخطير في هذا الصخب الإعلامي الفارغ، والذي هو جعجعة بلا طحين، فهو يشغل نفسه بظلال الإبداع، وذلك بدل أن يدرس هذا الإبداع، وأن يفككه وأن يحلله، وأن يقرأ بنيته العميقة، قبل ملامسة سطحه الأملس .
إن على المبدع المسرحي أن يبدع وكفى، هذا هو دوره الحقيقي، أما من يقول لك ( اعطني الحرية حتى اعطيك الإبداع) او يقول لك ( اعطني الدعم المادي الوفير حتى اعطيك الإبداع الفكري والجمالي الكبير والخطير) وبالتاكيد فإن مثل هذا ( المثقف) لا يمكن أن يكون مثقفا حقيقيا أبدا، ولا يمكن أن يكون أديبا أو فنانا صادقا، ومن الممكن جدا أن يكون تاجرا، وطبيعي أن منطق المقايضة لا علاقة له بالعطاء الإبداعي، ولا بالسخاء الفني، ولأن شجرة التفاح تعطي التفاح، بفعل قوة الحياة، وبفعل قانون الطبيعة، من غير أن تشترط أي شرط، فإن على الكاتب أن يكتب أيضا، وعلى المغني أن يغني، وعلى الممثل أن يمثل، وأن يكون ذلك استجابة لروح الحقيقة، و استجابة لصوت الوجود، وتجاوبا مع منطق التاريخ.
كل ما لا تصنعه العبقرية ليس ابداعا: إن من طبيعة الإبداع الكبير أن يشق طريقه الكبير، وأن يؤسس مجال حريته، وكلما اتسع روح هذا الإبداع إلا واتسعت مملكته بالضرورة، وأصبحت خطاباته عابرة للحدود المادية والرمزية معا، وأصبح خالدا خلود الزمن، وهل يمكن أن يكون الإبداع ـ في معناه الحقيقي ـ إلا مكابدة ومعاناة؟
وهذا الإبداع هو في الأصل ولادة شرعية، وهل هناك ولادة بدون حمل، وبدون مخاض، وبدون وجع؟
إن الإبداع هو الجمال، والجمال أساسا طاقة وقوة، ومن يملك القدرة على مقاومة هذا الجمال إذا كان جاذبية وكان سحرا، وكان شفافا كالنور والهواء؟
وهل يحتاج الضوء إلى دعم وإلى ترخيص، من أية جهة من الجهات حتى يشع ويضيء؟
وهل يحتاج المبدع الحالم لمن يأذن له بأن يحلم، ولمن ان يدعم حلمه ماديا؟
إن الإبداع طاقة خلاقة، وهي تفسر وتغير وتجدد وتثير وتدهش وتمتع وتعيد ترتيب المعاني والأشياء، في عالم الناس والأشياء، وهذه الطاقة هي جزء من الطاقات المتجددة في الطبيعة، تماما كما هي جزء من الطاقات المتجددة في المجتمع العربي الحديث، والذي هو جزء من المجتمع الدولي والكوني الكبير، ولهذا المجتمع بنيته الخاصة بكل تأكيد، وله ثوابته الفكرية والجمالية والأخلاقية، وهو بهذا يؤثر ويتأثر، ويجدد في المتغيرات، ولكنه يظل ثابتا على الثوابت، والتي هي أساسا إبداع حقيقي خالص، ومن المؤكد أن هذا الإبداع العربي هو اليوم ثمرة العبقرية العربية، لا أقل ولا أكثر، وهو ثمرة النبوغ العربي عبر التاريخ، وعلى مقاس هذه العبقرية يكون الخلق الفكري والجمالي، لا اقل ولا اكثر. ومتى يمكن ان يفهم هذه الحقيقة البسيطة، من يعتقدون ان الإدارات و الوزارات والهيئات والنقابات يمكن ان تؤسس فعلا ثقافيا حقيقيا؟
الإبداع الحر لا يتسول الحرية : أما بالنسبة للحديث عن العلاقة بين الحرية والإبداع ـ كما يطرح اليوم ـ فإن به قدرا كبيرا من التبسيط ومن التسطيح ومن الأمية أيضا، لأن الحرية ليست وصفة جاهزة، وليست مادة استهلاكية ينبغي أخذها مع الوجبات اليومية، ولكنها إحساس داخلي، وكل مبدع لا يتوفر على هذا الإحساس، فإن عليه أن يذهب ليفعل أي شيء آخر، وهذا هو الفرق بين الصانع والفنان، فالأول يتحكم فيه الزبون والسوق، أما الثاني فهو سيد نفسه، وهو سيد عالمه وكونه، وهل طالب عنترة بن شداد بالحرية قبل أن يقول شعرا، وقبل أن يبدع معلقته الشعرية الخالدة؟
إن شرط المبدع الحقيقي أن يكون إنسانا أولا، وأن يكون مواطنا مدنيا ثانيا، وأن يكون صاحب رؤية ورؤيا ثالثا، وأن يكون له موقف من الناس والأشياء رابعا، وأن يكون صادقا مع نفسه وفنه خامسا، وأن يكون دائم الإنصات إلى نبض الشارع سادسا، وأن يكون عرافا ومتنبئا سابعا، وأن يراهن على الحقائق الثابتة، وليس على الأعراض الجانبية العابرة ثامنا، وقبل كل هذا ان يكون حرا، وان يكون مستقلا عن موارد الدعم المشبوه
وأعتقد أن المسرح ـ مثلا ـ لا يمكن أن يكون إلا فعلا حرا، ولا أظن أن مسرحيا حقيقيا، يجمع الناس حول الحقيقة، ومن أجل الكشف عن هذه الحقيقة، يمكن أن لا يكون حرا بشكل حقيقي، وأن لا يكون في حريته واضحا وفاضحا وكاشفا ومشاغبا ومشاكسا ومشككا في البديهيات و( اليقينيات) الزائفة.
ولقد أكدت في كتابي ( أنا الذي رأيت) على أن الحرية لذاتها لا تعني لي شيئا، وذلك لأن الأساس هو أن تكون هذه الحرية في خدمة القيم الإنسانية الجميلة والنبيلة، وأن تكون في خدمة الفكر والعلم، ولهذا فقد قلت:
وأعرف أن الحرية بغير كرامة لا تكفي، وأومن بأن الحرية بدون مسؤولية فوضى غير منظمة وأرى أن الحرية بدون اختيارات عاقلة لا معنى لها وأعتقد أن الحرية، بغير رشد نفسي و ذهني ووجداني وروحي، ما هي إلا انتحار غير معلن.