مواضيع ذات صلة

بين الفكر والترند: “زمن السطحي الناجح”

MA5TV الثقافية

منذ ما يزيد عن نصف قرن، والفكر الفلسفي في العالم العربي والإسلامي يشق طريقا في المسالك الوعرة من تاريخنا الثقافي، لإعادة قراءة التراث الإسلامي، ليس بهدف تمجيده أو استعادته كما هو، بل في سبيل إحيائه نقديا، وبناء وعي حضاري جديد قادر على التفاعل مع تحديات العصر: الحداثة والتقنية والدولة والعقل والعالم.
ليس الحل في السخرية من الثقافة السائدة، ولا في التباهي بالتعالي الأكاديمي، بل في صياغة خطاب إنساني حضاري حيوي، قادر على أن ينافس لا أن يحقد، وأن يحاور لا أن يحتقر. فالفلسفة لا تحتاج أن تكون “مؤثرة”، لكنها تحتاج أن تكون فكرا حيا، نحو مشاريع فكرية جسورة، كتلك التي أطلقها حسين مروة، طيب تيزيني، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، محمود إسماعيل، نصر حامد أبو زيد، حسن حنفي، محمد أركون وغيرهم، انطلقت من أدوات معرفية رصينة؛ من التحليل البنيوي، إلى التأويل الهرمينوطيقي، إلى النقد الإبستمولوجي، لتعيد للتراث مكانته كتربة غنية قابلة للفهم، وإعادة البناء، لا كأنقاض مقدسة أو نصوص منتهية الصلاحية.


لكن هذا الجهد التراكمي، العميق والدقيق، ظل -ويا للمفارقة- منسيا في زمن “السطحي الناجح”.إننا اليوم أمام جيل واسع من المتلقين، صعدوا على سلم الثقافة السريعة: ثقافة كتب “فن اللامبالاة” و”نظرية الفستق” و”كيف تصبح مليونيرا في خمس خطوات” أو “فن الإغواء” و”العادات السبع”، الناجحة في سوق القراءة السريعة الجاهزة، والمترجمة إلى عشرات اللغات العالمية والمحلية، بمعيار الأرقام والمبيعات؛ حيث النجاح يُختزل في الأرقام، والتفكير يُختزل في وصفات، والحكمة تتحول إلى نصائح قابلة للمشاركة على إنستغرام، والصباحيات المباركة على الواتساب. وبقايا من جيل سابق طلائعي يسكنه الآن الإحباط والخوف والرعب، ويبحث عن موقع في “زمن السطحي الناجح”، كما يتطلع إلى حسن الخاتمة،
وفي قلب هذا المشهد الثقافي المربك، يُقصى الخطاب الفلسفي العقلاني وتُختزل قيمته، لا لأنه عاجز عن الإسهام أو بعيد عن واقع الناس، بل فقط لأنه لا يتحدث بلغة السوق، ولا يعِدُ بحلول سريعة، ولا يُروّج لأوهام السعادة المعلبة. يُنظر إليه كترف ذهني لا طائل منه، بينما هو في جوهره ممارسة نقدية تهدف إلى تحرير الإنسان، وتوسيع أفقه الأخلاقي، وتأسيس وعي حضاري مستنير. إن السؤال الذي يواجهنا اليوم ليس: كيف نُقنع من لا يريد أن يقتنع؟ بل: كيف نعيد للتفكير قيمته في زمن يتم فيه تسويق الروحي وتعظيم السوقي.


الهويات مقابل النزعة الكونية، الجندر مقابل الجنس، الجمهورية مقابل الجماعوية، العنصرية، النسوية، الهجرة… المشترك بين هذه القضايا بتداعياتها السياسية القوية هو الثقافة بكلّ ما للكلمة من معانٍ. لكنّ أوليفييه روا يرفض هنا فرضية «الحرب الثقافية» أو صراع القيم. فَما يعاني أزمةً، حسب رأيه، هو مفهوم الثقافة ذاتُه الذي اختُزل إلى نظام من رموزٍ معولمة تغزو الجامعات كما المطابخ، ومعارك الهوية والأديان كما العلاقات الحميمة، وحتى مشاعرنا المصنّفة في رموز تعبيرية.
هو بالفعل تجريدٌ ثقافي عالمي يشخّصه روا ويتفحّص آلياته وآثاره المتناقضة: يشعر المهيمِنون كما المهيمَن عليهم بالتهديد والمعاناة، وتصير كلٌّ من الإنكليزية العالمية المبسَّطة (Globish) وقصصِ المانغا المصوّرة محاكاةً تقضي على ثراء اللغة الإنكليزية والثقافة اليابانية، وتساهم عملياتُ التواصل في صنع «مستقبل متوحِّد»…
“زمن السطحي الناجح” لأوليفييه روا، كتابٌ حيوي ونقدي يثير القلق لإذعاننا بسهولة إلى توسيع نطاق المعايير.