بقلم: فاطمة الزهراء سهلاوي
في واقع التسارع الزمني وتغير أنماط الحياة، تغير حتى مفهوم الأسرة – من ذلك الكيان الذي كان يُعدّ الركيزة الأولى في المجتمع إلى آلية رقمية في بنية المجتمع، وهي تحولات عميقة في مفهوم الأسرة تفرض منظرا آخر للمنظومة الأسرية من ناحية مكانتها ووظائفها المشروعة . فهل ما تزال الأسرة المعاصرة تحافظ على جوهرها التربوي والاجتماعي؟ أم أن التحولات الاقتصادية، الثقافية والتكنولوجية أفرغتها من مضامينها التقليدية.
تشير دراسة “تطور الأسرة عبر العصور: رحلة من الماضي للحاضر” (مجتمع وفكر، 2025) إلى أن الأسرة لم تكن دائمًا على الشكل الذي نعرفه اليوم، بل مرت بمراحل تطورية كبرى، من الأسرة الممتدة المرتبطة بالأرض والزراعة، حيث تهيمن السلطة الأبوية وتتكامل الأدوار، إلى الأسرة النووية التي انتشرت في ظل التصنيع والهجرة نحو المدن. لقد أصبح كل من الأب والأم يحملان أدوارًا جديدة تتقاطع مع متطلبات الحياة العصرية، من العمل خارج البيت إلى الانخراط في منظومات تعليمية واجتماعية حديثة، وخلق فراغ داخلي للأبناء.في هذا السياق، تبرز ملاحظات “ويكيبيديا” في مدخل تاريخ الأسرة وتطورها الاجتماعي والثقافي، حيث توضح كيف تطور شكل الأسرة ووظائفها، خاصة في ظل تراجع مفاهيم الجماعة لصالح الفرد، وهو ما جعل الأسرة تركز أكثر على العلاقات العاطفية والذاتية بدل الأدوار الإنتاجية الجماعية، لأن العلاقة الأسرية قائمة على منظور عاطفي يمد الأمان والاستقرار.
تم إن دخول العولمة والتكنولوجيا الرقمية على الخط، فرض نمطًا جديدًا من العلاقات الأسرية، إذ تراجع التواصل التفاعلي لصالح التفاعل عبر الشاشات، سواء داخل الأسرة نفسها أو بين أفرادها الموزعين عبر الجغرافيا. وقد أوردت دراسة “عولمة العلاقات الأسرية وأثرها على الشخصية الاجتماعية” (الدراسات الديمقراطية، 2018) أن العولمة أسهمت في إعادة تشكيل القيم داخل الأسرة، حيث طغت الفردانية والاستقلالية على مفاهيم الترابط والاعتماد المتبادل.
تؤكد الدراسة المشار إليها أيضًا أن الأبناء باتوا يعبرون عن ذواتهم أكثر عبر الفضاء الرقمي الذي يصنع لهم عالم مريح قابل لجميع الأفكار المختلفة والانحيازات، بينما يعاني الوالدان من فجوة جيلية وثقافية يصعب تجاوزها أحيانًا. وهذا ما أفرز أسرًا تعيش معًا جسديًا لكنها منفصلة وجدانيًا.
في ظل هذه التحولات، حاول مؤتمر “الأسرة المسلمة في ظل التغيرات المعاصرة” (شبكة ضياء) تسليط الضوء على الأزمة القيمية التي تعاني منها الأسرة المسلمة اليوم (بناء على قناعات دينية)، والتي تتمثل في تراجع دورها التربوي أمام مؤسسات الإعلام والترفيه، فضلًا عن ضغط الظروف الاقتصادية التي فرضت على المرأة الانخراط في سوق العمل، وعلى الرجل مراجعة أدواره التقليدية. وركز المؤتمر على ضرورة إيجاد توازن جديد داخل الأسرة، يضمن توزيعًا عادلًا للأدوار بين الجنسين، ويرسّخ ثقافة الحوار والتفاهم بدل الصراع والتسلط. كما نادى بضرورة تأصيل مفهوم الأسرة التشاركية، حيث تُبنى العلاقات على الاحترام المتبادل وتكافؤ المسؤوليات.
أمام هذا الزخم من التحولات، لا يبدو أن الأسرة تسير نحو التفكك كما قد يعتقد البعض، بقدر ما تعيش حالة إعادة تشكل عميقة. فالتغيرات قد تكون فرصة لتجديد الروابط على أسس معاصرة.