مواضيع ذات صلة

لا تبكي على العالم، غيره

بقلم: آية الحمري

“The ultimate tragedy is not the oppression and cruelty by the bad people, but the silence over that by the good people.”
“المأساة الحقيقية ليست في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار.” قولة لمارتن لوثر كينغ، إدانا لعالم ينفجر يوميًا بأحداث متسارعة، ينهار فيه سقف القيم كما تنهار المباني في ساحات النزاع، وتنتشر فيه اللامساواة كما تنتشر الأخبار الكاذبة، بات الشعور الحقيقي بالانتماء أو القلق أو حتى الغضب نادرا.
نحن نعيش كما لو أننا نراقب فيلمًا طويلًا لا دور لنا فيه، نحن فقط كومبارس سلبيين، نتلقى، نمرر، ونتجاوز. لا اعتراض، لا انفعال، لا أثر. وكأن ما يحدث لا يحدث لنا. هل هي قسوة؟ هل هو جهل؟ أم هو شكل جديد من أشكال التخدير الطوعي؟ وعليه نسأل أنفسنا: هل أصبحت اللامبالاة نمط حياة؟ ثقافة سائدة؟ أم شكلا من أشكال النجاة؟ في السابق، كانت الكارثة تُحدث صدمة، تغيّر مجرى الأحداث، وتخلق وعيا جديدا. أما اليوم، فقد صارت الكوارث مجرد فقاعات إعلامية، مشاهد عابرة ، نراها، نُعلّق ثم نمضي لتأتي أخرى، وذاكرتنا متقوبة.


كم مرة شاهدت صور أطفال في غزة أو في سوريا أو السودان؟ كم مرة أبكاك مشهد غريق أو جائع؟ ثم ماذا فعلت؟ هل غيّرت شيئًا فيك؟ ربما، للحظات. ثم يعود الهاتف ليقترح لك إعلانًا عن ساعة جديدة أو تحدي رقص جديد أو تيكتوكيات، هذا ما يسميه الكاتب الأمريكي Neil Postman بـ”تسلية الذات حتى الموت”، حيث أصبح الإعلام أداة ترفيه، لا توعية، وحوّلتنا الشاشات إلى متلقين سلبيين.
‘ Amusing Ourselves to Death’ يبرر البعض هذا الصمت الجماعي بأنه حيلة للبقاء. فكيف لإنسان يتعرّض يوميا لعشرات المشاهد الصادمة ألا يغلق قلبه؟ في علم النفس، تُعرف هذه الظاهرة باسم “تعب التعاطف” (Compassion Fatigue)، وهو حالة تصيب من يطّلع باستمرار على المآسي، فيتبلّد إحساسه تلقائيًا كآلية دفاع. وفق دراسة من Yale Medicine، فإن هذا النوع من الإرهاق العاطفي بات ظاهرة شائعة، خصوصا في صفوف الشباب الذين يعجزون عن التفاعل مع كل ما يرونه.
لكن هل هذا التفسير كافٍ؟ هل يعفينا من المسؤولية؟
ربما نُتخَم بالألم، لكن كثيرين منّا اختاروا الانشغال بالصورة على الجوهر، بالمؤثرات على المعنى، وباللايكات على الوعي. إنها ثقافة التسطيح، حيث لا مجال للتأمل، ولا قيمة للسؤال، ولا وقت للوعي.
وهنا يُصبح الصمت نمطًا عامًا، واللامبالاة سلوكًا مقبولًا، إن لم يكن “أنيقًا” أيضًا. اللامبالاة ليست حيادًا. إنها انحياز غير معلن. حين لا تهتم لما يحدث في محيطك، فأنت تترك المجال لغيرك كي يقرر مصيرك.
الصمت في وجه التفاهة ليس علامة سلام داخلي، بل علامة استسلام حضاري. أليست تلك هي الثغرة التي ينفذ منها الاستبداد؟ فحين تتوقف الشعوب عن طرح الأسئلة، تصبح جاهزة لأي شيء: للتضليل، للاضطهاد، وربما حتى للانهيار، وهذا هو الاستعمار العالمي الجديد.


حذر الفيلسوف البولندي Zygmunt Bauman من هذه السيولة الأخلاقية في كتابه Liquid Modernity، حيث تصبح العلاقات هشّة، والمواقف رمادية، والانتماء عابرًا. في وقت يبدو فيه الانفعال عيبًا، والاهتمام سذاجة،
وعليه من المهم أن نُعيد الاعتبار لمفهوم “الشعور”. أن تشعر، يعني أنك لا تزال إنسانًا. أن تغضب من الظلم، أن تبكي أمام مشهد حقيقي، أن ترفض الصمت، هو دليل على أن روحك لم تُبتلع بعد فالوعي ليس بالضرورة أن تغيّر العالم، ولكن أن لا تدعه يغيّرك للأسوأ وأن تملك موقفًا وأن تقف ولو داخليًا وترفض أن تصبح حجرًا وسط الزحام.
ربما لا نملك سلطة القرار، ولا أدوات التغيير السريع، لكننا نملك أهم ما في الأمر: الانتباه وأن نلاحظ. أن ندوّن. أن نحكي. أن نكتب أن نقول لا، أن ننفعل ونتفاعل لكي لا ننسى الفعل ونتجمد، لأن الكلمة الواعية قد تكون أول شرارة لإيقاظنا وإيقاظ من حولنا، ولأن اللامبالاة ليست قدَرًا، بل خيارًا، والخيار دائمًا يمكن تغييره؛ لذا قال أنطونيو غرامشي “لا تبكي على العالم… غيره”.