د. المعز الوهايبي
ما فتئت العودة إلى حياة الكتّاب والفنّانين والمفكّرين تتحوّل منذ أواسط القرن العشرين إلى منهج مقاربة لأعمالهم وإنجازاتهم، فلم يعد الأمر وَقفاً على مباشرة مؤلّفاتهم وإنشاءاتهم، وإنّما أضحى يقتضي فتح كُوى أخرى منسيّة في حياة الواحد منهم للنّظر من خلالها إلى تلكم المؤلّفات أو الإنشاءات. ومن ثمّ فقد يكون وجيهاً الانطلاق من إرجاع تجارب الكتّاب إلى سيرهم الذاتيّة، لا في ما يتعلّق بخصوصياتهم اليوميّة والحميميّة فذاك من شأن المتلصّصين على حياة الآخرين، وإنّما انطلاقاً من مواقف وتجارب خاصّة تعتمل في ظلّ أعمالهم الشّائعة. وقد يكون المدخل إلى (حنّا آرندت) Hannah Arendt (14 أكتوبر 1906/5 ديسمبر 1975)، طالبة «هيدجر» الهاربة من «جحيم النّازيّة» إلى «نعيم» الولايات المتّحدة الأميركيّة، سالكة عبر كوّة الشّعر. لكن كثيرون لا يعرفون لها كتاباً شعريّاً مستقلاً، «سعيد من لا وطن له»، وكثيراً ما اعتُبِر هذا الكتاب، من قبَل الذين يعرفونه، بيوغرافيّا لكونه يقدّم صورة عن حنّا آرندت المعذبة والمتمرّدة، المندفعة والسّوداويّة، المبتهجة والتي ليس ثمّة ما يواسيها.
فما الذي يدفع فيلسوفة لمْ تتردّد أمام تفكيك أصول الشموليّة السّياسيّة وطبيعة الأنظمة التوتاليتاريّة، ولم ترتبك أمام ما يقتضيه الشّرّ من فحص وتمحيص، ولم تتوانَ عن الإدلاء بدلوها في قضايا الشّغل وعلاقته بمجتمع الاستهلاك إلى أن تستظلّ طيلة مسيرتها، تقريبا، بشجرة الشّعر؟ أهُو فقط تنفيس وجدانيّ عن فكر ما فتئ ينكبّ على موضوعات سياسيّة قويّة وشائكة أم هل هو استرجاع محتّم لما ظلّ، منذ أفلاطون، عالقاً بقفا تاريخ الفلسفة بعد أن أطرد أفلاطون لشّعراء من جمهوريّته؟
الخلاص الشّعريّ للفلسفة
مؤلّفات غير قليلة ستعترف، في القرنين التّاسع عشر والعشرين، بـ«بؤس» الفلسفة وبما اعتراها من «أزمة» وبما يواجهها من «مآزق»، وسينصرف الفلاسفة إلى تقصّي سبل خلاص الفلسفة بالتلّفت إلى موضوعات منسيّة هنا وهناك من بينها الشّعر حيث ستفترض الإسبانيّة (ماريا زمبرانو) Maria Zambrano أنّه في الأزمنة الحديثة يأتي القنوط من الفلسفة والمواساة من الشّعر. ولا نستطيع أن نجزم ما إذا كانت (حنّا آرندت)، وهي تلوذ بالشّعر، تستأنف السّيْرَ في الأفق الذي فتحه أستاذها (هيدجر)، وذلك باستعادة التّفكير فلسفيّاً في القول الشّعريّ، أو إذا ما كانت تصدر عن تجربتها المخصوصة بوصفها بدأت شاعرة في الأصل. لكن من الواضح أنّها كانت لا تتوانى عن تغذية الخطاب الفلسفيّ بنسغ الشّعر، فلقد صدّرتْ كتابها الأشهر أصول الشّموليّة ببيت لـ(ريني شار) «إرثنا غير مسبوق بأيّة وصيّة». وكانت تستشهد باستمرار، في كتاباتها ومحاضراتها، بشعراء نظير (بريشت)، و(هولدرلين)، و(ريلكه)، وغيرهم. فلقد كانت، طيلة أربعين سنة تنسحب، بين الحين والحين، من جهة الفلسفة لتقبل على الحياة من جهة الشّعر. أوَ لم يقلْ، ذات مرّة، الشاعر النّمساويّ (هيغو فون هوفمانتستاهل) Hugo von Hofmannstahl (1874-1929) للفيلسوف (هوسّرل) «لنذهب ونرَ من جهة الشّعر، فإذا أردنا أن نوجد، أو أن نقترب من نسغ الحياة المنسيّ، من لطافتها غير المكتملة أبدا ولكن الجاهزة دائما، فإنّنا نحتاج شعرا أكثر ممّا نحتاج إلى العلم والتّفكير المجرّد»؟!
«نؤنسن العالم»
وبالفعل، تعقد آرندت مع الشّعر علاقة جوهريّة، داخليّا، نظرا إلى الاهتمام المشترك بالبشر بين الشّاعر والمنظّر، فإذا كانت الفلسفة حارسة للحقيقة فإنّ الشّعراء يسهرون، بفضل كلماتهم، على الأصوات وثيقة الصّلة بالحقيقة. وهي تقول: «إنّنا نؤنسن ما يجري في العالَم بالتكلّم، و، في هذا التكلّم نتعلّم كيف نكون بشرا». ومن ثمّ الحوار بين الشّعر والفلسفة، سواء تعلّق الأمر بكتابات الفيلسوفة وهي تتغذّى من كلمات هولدرلين أو ريلكه، أو بقصائدها التي هي من فكر، إنّما هو حوار يغذي عمل هذه الشاعرة المختبئة وراء فلسفتها حيث «الشّعراء يعثرون على الكلمات التي بها نحيا ويوجدونها».
ويعرف قرّاؤها أنّها كثيراً ما تلوذ باستعارات اللّغة الشّعريّة لقدرتها الكشفيّة، هذه القدرة التي هي في الوقت نفسه تُمكّن من إظهار إمكانات تجديديّة للمعنى فضلا عن الطّاقة التي توفّرها لإعادة كتابة الواقع. ففي اعتقادها، وحدهم الشّعراء قادرون على إضاءة الحقيقة الأكثر سواداً في التّاريخ، لأنّهم ينتصبون دائما في مواجهة العدميّة والضّياع، فهم الأقدر على أن يعيدوا للفترات القاتمة بريقها، و«للكلمات التي نحيا بها» قدرتها على الكشف. فهي تقول واحد من قصائدها:
«مفردة مدرَجة في قصيدة
إقامة، وليست منفى».
وكانت تعرّف الشّاعر على أنّه «من ينبغي عليه أن يقول ما لا يُقال، من لا ينبغي أن يصمت في المناسبات التي يصمت فيها كلّ النّاس». ولذلك يحوز الشّعر مكانته ضمن الفضاء العموميّ الذي لا يقتصر فقط على المجال السّياسيّ وإنّما هو مجال لتطوير الوجود الرّمزيّ حيث يتكفّل التّعالق بين الشّعريّ والسّياسيّ، بطريقة معيّنة، بتعزيز الحقّ في الكلام والمبادرة إلى التّواصل باسم المتكلّم لا نيابة عنه حتّى يتسنّى له أن يقوم بفعل «التّسمية» مع الآخرين وهو يتوجّه إليهم في الوقت نفسه. ذلك أنّهما يشيّدان ضربا من التجلّي يقوم على التّعدّدية باعتبار أنّ كلّ إنسان، في تصوّرها، يحمل فرادة لا تُعوَّض. هذه الفرادة لها أن تتجلّى في الفضاء العموميّ، وهذا ما يجعل لموضوع الحرّية معنى.
وهي، إذ تدلي بهذا، تُرجع للفنّان، وهو في عزلة مسيرته، القيمة العموميّة، فهو الذي من دونه في «الفترات المظلمة» تَفسد اللّغة.
الشّعر نسغ الحياة
كتبتْ قصائد طيلة حياتها، تقريبا. ولا يمكن، بالنّسبة إليها، أن نفصل المراس الفلسفيّ عن الكشف الشّعريّ في اعتراض على التّعارض القديم بين العقل والعاطفة، بين الفكر والحياة، الذي من فرط ما تعوّدنا عليه فإنّه يربكنا مجرّد التّفكير المتوهّج كون الفكر والحياة ليسا إلاّ واحدا. وكانت قد أسرّت للصّحفي الألماني (غنتر غوس) Günter Gauss في 1964 «الشّعر لعب دورا كبيرا في حياتي». فقد كان الشّعر حديقة سرّية ترعاها بعناية. ولذلك من الصّعب عدم إقامة تجاوب بين سفحيْ جبل حياتها المغمورين بالفكر والشّعر، حيث تتصادى الرّوائح والألوان والأصوات [طبقا لما يُسمّى أسلوب التّجاوبات البودليريّة] المبثوثة في قصائدها، كما تقدِّر ذلك الفرنسيّة (ماريانا فوجير) Marianne Fougère. وهو ما نعاينه واضحا في قصيدتها (نظريّة غوته في الألوان) لكن باستحضار موضوعات متنوّعة، وبتنويع الأشكال الغنائيّة، ينتقل الصّوت الشّعريّ لـ(آرندت) من «أنا»، ومن «أنت» ومن «نحن» إلى «العالَم». فأهميّة الاطّلاع على تجربتها الشّعريّة لا تكمن فقط في قيمة هذه الأبيات التي بقيت مخبوءة، وإنّما هو اطّلاع يذكِّر قارئ (آرندت) بجدوى أن تكون له عينان وأذنان حيال العالَم من أجل أن يضبط التوجّه فيه والاضطلاع بهمومه «عيوننا، عالمُنا»، أو سرّ حبّ العالَم المحتفى به كثيرا من قبَلِها.
فإذا كانت الفلسفة تتوسّل بالمفهوم لتقول العالَم على نحو من الكلّية، فإنّ الشّعر يتوسّل بالاستعارة ليقول فرادة تشكّل الأشياء فيه على نحو من التّكثيف:
وربّما تعيّن علينا أن نتقصّى عن موقع الشّعر من رؤيتها ضمن فكرة «الولاديّة» Natalité في فلسفتها، فهذه المرأة التي لم تنجبْ شيّدت فلسفة تدور حول أهمّية «الولادة»، في حين أنّ معظم أسلافها قد شدّدوا على الموت، بما هو الحدّ الذي لا يُتعدَّى والمحتّم للحياة. فلا ننسى، عندئذ، أنّ (آرندت) قد ثوّرت كلّ الفلسفة من أفلاطون إلى عصرها هي، بما في ذلك (هيدجر). فهي تقول: «دون استمرار النّاس الذي يطيل حياة الموتى، فإنّ البشر يكونون شبيهين بالأعشاب فيكون كلّ مجد إنسانيّ آخر مثل زهرة عشب» تذوي سريعا وتٌنسى. فالنّاس لا يولَدون ليموتوا بل ليجدِّدوا. أمّا الفرْد المتميّز فهو ما تصنعه الكلمة.
الشّعر ديواناً للصّداقة
لقد كتبتْ ذات مرّة: «لا أحبّ إلاّ أصدقائي. وأنا غير قادرة على أيّ ضرب آخر من الحبّ». وبالفعل، ستكون بعض قصائدها اللاّفتة مراثي لأصدقاء رحلوا، فدفاترها تكشف عن أنّ الشّعر كان يمثّل لها نوعا من الملاذ أمام عجلة الزّمن، وجنون البشر، والموت. وهذا ما كتبتْه في صديقها، الكاتب النّمساوي، (هرمان بروخ/1886-1951):
«لكن كيف الحياة مع الموتى؟ قلْ،
حيث الصّوت الذي يلطّف حضورهم،
الصّداقة لدى (حنّا آرندت)، صداقة الشّعراء تخصيصا، ليست من حوافّ تجربتها الفكريّة والشّعريّة، بل هي في الصّميم منها. فكلّ منهم حصّة وجودٍ، في حياتها، معروكة بخلطة الشّعر. ولعلّه لذلك تحتوي مجموعتها الشّعريّة قصائد عديدة عن أصدقاء رحلوا، في استئناف لحيواتهم شعريّا حيث من يموت منهم يتحوّل إلى قصيدة في ديوانها في تناسب مع معادلة الفنّ بما هو صنو الدّيمومة كما تقرّ هي نفسها بوضوح عندما تقول «الوحيدون الذين نصدِّق في العالَم هم الفنّانون». ف«ديمومة الأثر تعكس الطّابع الدّائم للعالَم».
ومع كلّ منهم لا يخلو الأمر من طرافة وتأثير فكريّ، بل قد يكون ساخرا أحيانا، فعندما نتمعّن في الحصّة التي تريد (آرندت) أن تحصِّلها من (هين) Heine، الذي يُعدّ بمثابة آخر الشّعراء الألمان الرّومنطيقيين، نجدها تقرأه –كما تشاهد شارلي شابلن- بتأثّر، بل بتواطؤ حتّى في المرارة، لكونه يبسط، في قصائده، وضع المنبوذ ضمن شبكة من العلاقات لا يعتريها غير التّعقيد الحرّ.
أمّا عن علاقتها بالشّاعر الأميركيّ (رندال جاريل) Randal Jarrel (1914-1965)، فتكتب: «ما أن يدخل إلى بيتي يتملّكني الشّعور أنّ المنزل قد فُتِن. لم أفهم بتاتا كيف يتمّ ذلك، لكن ما من شيء صلب هناك، إناءً كان أو أثاثا، إلاّ واعتراه تغيير دقيق غير محسوس إلى أن يفقد وظيفته اليوميّة العاديّة». كانت (آرندت)، كما تقول هي، تُصاحب (جارّيل) بخفّة وتبسّم، إلى حيث لا يمكنه أن يتفادى الالتقاء بـ«هوامش العالَم في مفاجئته الأبديّة»، لقد كان «ينظر إلى العالَم مواجهة». وإجمالا، قد تجدي فلسفتها في النّظر إلى العصر كيّف منفاها الخارجيّ حيث اتّخذت من أصدقائها بديلا عن الوطن، بل لقد ماتت أمام بعضهم في بيتها، وقد دعتْهم لغداء شهيّ، كان ذلك أشهر قليلة بعد زيارتها لـ(هيدجر) في 1975. [ربّما استدعى الأمر، في سياق آخر، عقد مقارنة بين شعريّة صاحبة «سعيد من لا وطن له» وبين سرديّة أخرى للمنفى تنضح ألما يفكّك فيها الفلسطينيّ أدوارد سعيد، في كتابه «تأمّلات في المنفى» تخصيصا، الوعيَ بالاغتراب]. لكن لا مناص، على ما يبدو، من الاستئناس بشعرها للنّظر إلى منفاها الباطني حيث تعبّر عن ذلك بعض قصائدها واضحة التّأثّر بالرّومنطيقيّة الألمانيّة، بسخريّة مؤلمة أحيانا، ولكن، في الغالب، بغنائيّة تكشف عن هذا المنفى أكثر ممّا تذيبه.
تُرى هل كانت (حنّا آرندت) وهي تكتب قصائدها تمتثل لـ«وصفة الشّعر» كما ضبطها (أرتير رامبو) في رسالته الشّهيرة إلى مواطنه الشاعر (بول ديميني)، في 15 ماي 1871،، هل كانت وهي تعتصر روحها وتكابد رؤاها، في ظلّ شجرة فلسفتها، تجسّم تخميناته المستقبليّة؟ فلقد كتب متنبّئا بشعراء المستقبل «هؤلاء الشّعراء يكونون عندما تكون العبوديّة اللاّنهائيّة للمرأة قد كُسِرتْ، عندما تحيا لنفسها وبنفسها، إذْ عندما يكون الرّجل -وهو إلى حدّ الآن بغيض- قد سرّحها فتكون شاعرة هي أيضا!».