بقلم: آية الحمري
في المشهد الفني، تُعد السينوغرافيا عنصراً رئيسياً لا يقل أهمية عن النص أو الأداء التمثيلي. فهي ليست مجرد خلفية جميلة أو ديكور بسيط يؤثث خشبة المسرح، بل هي لغة بصرية معقدة تُحاكي المشاعر، تُعمّق الفهم، وتفتح آفاقًا جديدة للتأويل.
على مدار العقود الماضية، تغيرت وظيفة السينوغرافيا بشكل جذري. في المسرح الكلاسيكي، كانت بمثابة “تجميل” للمساحات، تُستخدم لإضفاء جو معين دون أن تحمل رسائل مستقلة. أما اليوم، فقد تحولت إلى فن مستقل قائم بذاته، ينسج سردًا بصريًا يتكامل مع النص، أو يتعارض معه أحيانًا، ليؤدي دورًا فعالًا في نقل الرؤية الإبداعية للمخرج والفنان.
تُعرّف الباحثة البريطانية باميلا هوارد (Pamela Howard)، في كتابها What is Scenography? (2009)، السينوغرافيا بأنها فن توليد المعنى البصري عبر عدة عناصر منها الضوء، الفضاء، الحركة، والمواد المستخدمة على الخشبة. وتؤكد أن السينوغرافيا ليست تابعة للنص بل «نص موازٍ يُكتب من خلال الصورة والصمت».
هذا المفهوم يجعلنا نعيد التفكير في علاقة المشاهد بالنص المسرحي. فبينما يركز الجمهور عادةً على الحوار والأداء التمثيلي، تأتي السينوغرافيا لتُحاكي الحواس بطريقة أخرى. هي التي تُشعل الخيال، وتخلق “مكانًا” يعيش فيه الجمهور تجربة فريدة من نوعها.
في هذا السياق، يصف الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار في كتابه شعر المكان (The Poetics of Space, 1958)، الفضاء بأنه “ذاكرة مشيدة”، أي أن المكان نفسه يحوي معانٍ ودلالات تتجاوز طبيعته المادية. الفضاء المسرحي الذي يُصمم بعناية لا يقدم مجرد خلفية، بل يؤثر في المشاعر والذكريات، ويخلق حالة من الانغماس الكامل.
مثلاً، استخدام الإضاءة الباردة والظلال العميقة قد يخلق جوًا من الغموض والقلق، بينما الألوان الدافئة والمساحات المفتوحة تُثير مشاعر الأمان والراحة. هذا التأثير النفسي لا يمكن للمتفرج دائمًا أن يفسره بالكلمات، لكنه يعيشه بعمق.
في عالم اليوم، حيث تتداخل الثقافات وتغزو العولمة مختلف الفنون، تبرز أهمية السينوغرافيا في التعبير عن الهوية المحلية بشكل فني مبتكر.
يسائل هذا الطرح الشكل التقليدي لتمثيل الثقافة على المسرح: هل تكفي الأزياء والزخارف المحلية لتعكس هوية مجتمع؟
في هذا الصدد، يشير الناقد المغربي حسن المنيعي، في كتابه المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة (1994)، إلى أن الهوية لا تُستعاد عبر الرموز التقليدية فقط مثل القفطان أو الزرابي، بل من خلال اشتغال بصري ذكي على الإيقاع، اللون، والعلاقات الفراغية التي تستند إلى الذاكرة الثقافية العميقة للمجتمع.
هذا الاشتغال الذكي يسمح للسينوغرافيا بأن تبني جسرًا بين التراث والحداثة، فتخلق فضاءات تنطق بالحس الثقافي دون أن تكون بالضرورة صورة فوتوغرافية حرفية.
يتمتع الفضاء السينوغرافي بقدرة استثنائية على استدعاء الزمن، فتارة يأخذنا إلى الماضي بكل تفاصيله، وتارة أخرى يصور واقعًا معاصرًا أو يفتح نافذة على المستقبل.
هذه “الكتابة الزمكانية” برزت بوضوح في أعمال المخرج البولندي تاديوش كانتور، خاصة في عرضه الشهير La Classe Morte (1975)، الذي حوّل فيه الدمى والمقاعد المدرسية والإضاءة الخافتة إلى سرد بصري حي، يحاكي التوتر بين الماضي والحاضر، ويُجسد الذاكرة الجماعية بطريقة صادمة وشعرية في آن واحد.
أما في التجارب المسرحية المعاصرة، فتظهر براعة السينوغرافيا أكثر من خلال التفاصيل الرمزية التي تنقل رسائل قوية دون حوار.
في مسرحية Red مثلا، التي كانت عرضا مسرحيا ضمن فعاليات المهرجان الدولي للمسرح الجامعي للدار البيضاء الدورة السابعة والثلاثين ، كان الديكور يعتمد على حبلين مشنقة وأقنعة. هذه العناصر لم تكن فقط رموزًا جمالية، بل تعبيرًا دقيقًا عن شعور الممثلين بالاضطهاد، والحرمان من الحلم والطموح. الأقنعة مثّلت المجتمع الذي يُجبر كل فرد على التخفي خلف قناع، في واقع لا يرحم الهويات الهشة.
وفي مسرحية Blast، التي هي الأخرى كانت ضمن فعاليات المهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدار البيضاء (الدورة 37)، هيمنت الألوان الحمراء والزرقاء على المشهد، بينما غطت الرمال الخشبة لتجسّد معاناة الفلسطينيين زمن الحرب. لم يكن صراخ الممثلات وحده من ولّد القشعريرة، بل الدم المسكوب، الجسد الخشبي عديم الملامح، والميكروفون الذي ينطفئ عند الحديث عن الحقوق — كلها أدوات سينوغرافية شديدة الواقعية، صورت بوحشية لافتة كيف أن الحرب لا تميّز بين صغير وكبير، ولا تعترف بالحق ولا بالكرامة.
وقد ناقش عبد المجيد الهواس هذا النوع من الاشتغال البصري في مقاله «في البدء كانت السينوغرافيا» (المنشور على موقع الهيئة العربية للمسرح، 2015)، مؤكدًا أن الصورة المسرحية أصبحت اليوم في كثير من التجارب أهم من النص، وأن السينوغرافيا لا تكتفي بتأثيث الفضاء بل تبني المعنى ذاته.
السينوغرافيا إذن، ليست مجرد زينة على الخشبة، ولا خلفية صامتة، بل هي نص بصري يُكتب بالضوء والظل والفراغ، يحمل الكثير من المعاني التي تضيف عمقًا وجمالًا للعروض المسرحية. في زمن يزداد فيه حضور الصورة وتأثيرها، ستظل السينوغرافيا من أهم عناصر الإبداع الفني، مؤثرة في وجدان المتلقي، ورافعة للهوية الثقافية والزمنية عبر فنون العرض.