مواضيع ذات صلة

ليلى نصير ابنة البحر التي رسمت حتى الرمق الأخير

دمشق – أمينة عباس

أطلقت على نفسها لقب “فنانة التجربة”، في حين لقَّبها آخرون بالرائدة، وابنة البحر، والفنانة الجريئة، وهي تُعد من بين عشرين امرأة سوريّة ساهمن في بناء الثقافة السورية. لذلك لم يكن رحيل الفنانة التشكيلية ليلى نصير في شهر آب من عام 2023 مجرد رحيل لفنانة أغنت مسيرتها الطويلة بتجارب فنية عديدة: الواقعية، السريالية، التعبيرية فحسب، بل كان خسارة كبيرة للساحة الثقافية بشكل عام، والتشكيلية بشكل خاص، وهي إحدى رائدات الفنّ السوريّ المعاصر، ومن أبرز الأسماء في المشهد التشكيلي السوري منذ ستينيات القرن الماضي، حيث تم تصنيفها من قبل اللجنة الدولية في إيطاليا “رائدة الفن التشكيلي الأولى في الوطن العربي”.


صاحبة الشعر الأحمر

رحلت ليلى نصير عن عمر 82 عاماً، بعد أن تركت دمشق وعاشت عزلتها منذ عقود بسبب المرض والتقدم في السن، في مدينتها اللاذقية التي ما زال أبناؤها يتناقلون كيف كانت صاحبة الشعر الأحمر، وأوّل فتاة ترتدي البنطال، وترتاد المقاهي لترسم المارّة وما يحدث في الشارع. وحين كتب عنها الشاعر نزيه أبو عفش قال: “تجوّلت طويلاً بين أعمال عظماء كثيرين، فان غوغ، بيكاسو، فريدا كالو، ماتيس، وآخرين كثر، لا في الرقة، ولا في العمق، ولا في الرهافة، ولا في الصدق، ولا فداحة الألم وتواضع البوح فيه، ولم أعثر على من هو أو هي أنبل من ليلى نصير.. أيها الأصحاب، أرجوكم، من يرشدني إلى عنوانها؟ لا أريد لأحدنا، أنا أو هي، مغادرة الحياة قبل أن أعانقها وأقول لها: ليلى نصير العظيمة.. كم أنتِ جديرة بالحب والتقديس”.

قاصة وشاعرة وتشكيلية

وُلدت ليلى نصير ونشأت في عائلة مثقفة مهتمة بشؤون الأدب والفكر، وكان والدها يمتلك مكتبة منزلية ضخمة، وكانت والدتها تحب جورج برنارد شو، ومارك توين، وجبران خليل جبران، وطه حسين. وفي الرابعة عشرة من عمرها بدأت بكتابة القصة متأثرة بأختها التي تكبرها، كما بدأت برسم إخوتها، وكان حلمها أن تكون رسّامة مثل مايكل آنجلو، وفان كوخ، وليوناردو دافنشي. ومن أجل ذلك اتجهت بعد نيلها شهادة البكالوريا إلى القاهرة من خلال بعثة حكومية للدراسة في كلية الفنون الجميلة – تخصّص فن التصوير التشكيلي – وبعد التخرج عام 1963، وحال عودتها إلى مدينتها، ولعدم وجود مرسم لها، لجأت إلى كتابة القصة القصيرة والشعر، وأقامت أول معرض لها عام 1970، لكنها ما لبثت أن توجهت إلى دمشق مصممة على أن تكون فنانة تشكيلية، وعملت في مدرسة التربية الفنية، وأقامت معرضها الشخصي الثاني فيها عام 1972. وعن هذه المرحلة تقول: “دمشق كانت أحسن حالاتي الفنية فيها، وأحسن إنتاج فني لي كان في مرسمي الصغير”.


فنانة التجربة

عُرفت ليلى نصير بأنها كانت تجلس في المقاهي لترسم البورتريهات التي تراها هناك، كما كانت تأتي بأطفال الشوارع إلى مرسمها لترسم هيئاتهم البائسة، بعد أن تطعمهم وتعطيهم قدراً من النقود. ولأنها كانت تؤمن أن على الفنان أن يعيش التجربة قبل أن يرسمها، لأنها بالضرورة أكثر التصاقاً بالفنان، سافرت إلى بيروت أثناء الحرب الأهلية ورسمت ما دمرته الحرب، وإلى جنوب لبنان عام 1982، وعاشت مع المقاتلين ترسم في الخنادق. تقول: “المقاتل الذي جلس لا يتحرك وقد وضع بندقيته على رجليه بعد عشر ساعات من القتال أخجلني.. كانت رسمة عظيمة.. كنت أريد رسم أناس لا يتاح لي رسمهم في بلدي”. وتشير في أحد حواراتها إلى أن علاقة صداقة ربطتها مع الفنان السوري العالمي لؤي كيالي، الذي تشاركت معه في رسم مواضيع متشابهة كالحياة والموت وصراعات الإنسان وقضايا الطبقة الكادحة.

ابنة الحضارات القديمة


كانت ليلى نصير تؤمن أن لا مستقبل يأتي إلا من معرفة الماضي وربطه بالحاضر، وأن المتتبع لأعمالها سوف يرى ذلك الخيط الحريري الذي يربط حاضرنا بماضينا، لقناعتها أن كل فنان عندما يبحث عن الحداثة لا يهرب من جذوره، لأن في ذلك صفة الفنان الحقيقي. وأن الفنان عندما ينسلخ تماماً عن الأرض والمحيط ليعيش عالماً آخر، فهذا دون شك مقتل له. وفي الوقت ذاته كانت تؤكد على أن الفنان ابن البيئة والمحيط، وما ينعكس بالضرورة على المجتمع ينعكس عليه، وبالتالي هو يرسم المرئيات من خلال شخصيته المتفردة. لذلك تأثرت، وهي ابنة الحضارات القديمة، بالواقع، فجاءت أعمالها تعبيرية قبل أن تكون واقعية، لأن هاجسها هو الإنسان الذي يحمل في أعماقه الموت والولادة، الليل والنهار، كما يحمل الحكايات والأساطير التي عبّرت عنها، ليس بالمفردات الموجودة في مداخل الآثار الفنية، بقدر ما عبّرت عن نظرة حديثة لها، وهي التي جذبتها للهرب من عالمها اليومي الدامي.

سنوات الحرب


عاشت ليلى نصير سنوات الحرب التي أثرت بها من كل النواحي: “هدّني نفسياً أن أرى ما حدث لسورية، وقد تعرضت خلالها لثلاث نوبات قلبية و12 جلطة دماغية”، وعلى الرغم من ذلك بقيت ترسم وتُقيم وتشارك في معارض، حيث رسمت سورية محمولة على سواعد رجال ونساء، ومعهم أطفالهم، سورية الجريحة ولكن ليست الميتة. وحين مُنحت جائزة الدولة التقديرية عام 2014، أكدت أن التكريم لها وللآخرين من الأسماء الثقافية هو شكل من أشكال بث الحياة في المجتمع السوري: “السوريون هم أبناء حضارة أوغاريت العظيمة ممن لا يمكن تحويلهم عن مبادئهم التاريخية الأصيلة”، مبينة أنها، ورغم حصولها على العديد من الجوائز المهمة في محافل دولية، إلا أن هذه الجائزة تركت أثراً خاصاً في نفسها، كونها تمثل تقديراً لمنجزها الإبداعي من قبل بلدها، فكانت بالنسبة لها تتويجاً لمسيرتها الفنية الطويلة.

التواصل مع الجمهور

أصدرت صالة الأيام في دمشق عام 2012 كتاباً تحت عنوان “ليلى نصير”، لخّص فيه المشاركون في إنجازه مسيرتها الفنية الطويلة، منهم الفنان السوري العالمي أسعد عرابي، الذي أشار فيه إلى أنه من غير السهل الكتابة عن فن ليلى نصير، ليس فقط بسبب التطابق الاستثنائي بين تجربتها الداخلية المعاشة وأدائها التشكيلي الصادق، وإنما لأن المواصفات المأزومة تتسامى في تعبيراتها العاطفيّة إلى لغة جماليّة شموليّة، واحتدام زاهد، وحيويّة متقشفة في اللون والخط، في بعض حالات تصاعديتها إلى مستوى العدميّة الوجوديّة أو الوجدانيّة، وبما تثيره في الوعي والذاكرة والتخيل من خصوصيّة تراجيديّة، ومغتبطة بالضرورة أكثر التصاقاً بالفنان. لذا فهي تبحث عن الحقيقة دوماً وتتلمسها، وتعتقد أن هاجسها، بالضرورة، التواصل مع الجمهور، وهذه معادلة صعبة بسبب أمية الجمهور الفنيّة.


لا أستطيع أن أكون إلا مع الفن

تفرغت ليلى نصير للفن ولم تتزوج، وكانت تقول: “لا أستطيع أن أكون إلا مع الفن، فلا وقت للاثنين معاً، واخترت الإقامة على ضفة الفن”. وكانت تفسر بطأها في الإنتاج قائلة: “العمل يأخذ مني وقتاً كبيراً، فالعمل يجب أن أتفاعل معه وأحبه لكي أبدع، لكن أحاول أن يكون إنتاجي مدروساً، وجزءاً مني، وأنا جزء منه”.
عملت الفنانة الراحلة أستاذة محاضرة في كلية العمارة بجامعة مدينة اللاذقية، واقتنت أعمالها مؤسسات رسمية وخاصة، من بينها المتحف الوطني في دمشق، ووزارتا الثقافة والسياحة، ومؤسسة بارجيل للفنون في الشارقة، وعدد من الغاليريهات في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية، وحصلت على براءة تقدير من جهات حكومية وخاصة.