بقلم: حفصة الغزواني
من بين الأشكال الفنية التي تجسّد تلاقح الإبداع بالتاريخ، يبرز فنّ الفسيفساء المغربي، أو ما يعرف محليًا بـ”الزليج”، كواحد من أرقى تمظهرات الفن التشكيلي في الثقافة المغربية. هذا الفن لا يقتصر على الزخرفة أو التزيين، بل يتجاوزهما ليصبح لغة تشكيلية نابضة، تُعبر عن الهوية وتؤرّخ لذوق حضاري عريق.
الفن التشكيلي، باعتباره فنًّا بصريًا يقوم على تنظيم الأشكال والخطوط والألوان لخلق تعبير رمزي أو جمالي، يجد في الفسيفساء المغربية شريكًا أصيلاً. هذا الفن والمهارة الذي ينتمي لتاريخ ومسافر في الزمن، ويعود بنا إلى حضارة الأندبس، لذا فالصانع التقليدي، وهو في نفس الوقت فنان، لا يكتفي بوضع قطع الزليج جنبًا إلى جنب، بل ينطلق من هندسة وعلم ومعرفة وأصالة وتأصيل تم يبتكر تكوينات هندسية معقدة تحترم النسبة والتوازن والإيقاع، تمامًا كما يفعل التشكيليون في لوحاتهم.
الزليج المغربي، بتدرجات ألوانه المتناسقة وتكراراته الدقيقة، يخلق نوعًا من التماثل البصري الذي يشبه ما تُنتجه ريشة الفنان على القماش. لكن ما يميّز الفسيفساء كفنّ تشكيلي فريد هو اشتغاله على المساحات المعمارية، بحيث تتحول الجدران والأسقف والأرضيات إلى لوحات مفتوحة تعيش مع الإنسان وتُحيط به يوميًا، وتتناغم الفسيفساء الحجرية والترابية ومع الفسيفساء المصنوعة من العود، أو المنتقوشة به.
في مدن مثل فاس ومراكش ومكناس، تقف المعالم التاريخية شاهدة على عبقرية هذا الفن. فسيفساء مدرسة ابن يوسف أو قصر الباهية لا تقل قيمة عن أي عمل فني تشكيلي يُعرض في متحف. فهي لا تُعبّر فقط عن جمالية زخرفية، بل تحمل في طياتها رموزًا ثقافية وروحانية، مستمدة من الفكر الإسلامي الذي يبتعد عن التشخيص، ويحتفي بالتجريد والنمط المتكرر.
لقد كان الزليج بالنسبة للفنان المغربي أداة للتعبير عن الانسجام بين العقل والروح، بين الفن والدين، وهو ما يمنحه بعدًا فلسفيًا يتجاوز كونه مجرد مهارة تقنية. من خلال استخدام أشكال هندسية معقدة تتكرر بتناسق تام، يعكس الفنان الفسيفسائي رؤيته للعالم: منتظم، منضبط، ومفعم بالروحانية.
اليوم، ومع تطور مفاهيم الفن التشكيلي المعاصر، أصبح الزليج المغربي مصدر إلهام لفنانين حداثيين، يُدخلونه في أعمال تركيبية، أو يقتبسون منه الأنماط والألوان لبناء لوحات تعيد صياغة التراث بأساليب جديدة. وهكذا، يتحول الزليج من فن معماري إلى فن قابل للحمل والعرض، ويأخذ مكانه بين باقي الفنون التشكيلية المعاصرة.
الفسيفساء المغربية ليست فقط جزء من العمارة التقليدية، بل هي مدرسة قائمة بذاتها داخل الفن التشكيلي، تدرّس مفاهيم التكوين والدقة والتناغم البصري. هي فن التفاصيل التي لا تُرى بسرعة، لكنها تلامس روح المتأمل وتُحدث فيه أثرًا عميقًا.
وفي زمن تتداخل فيه الفنون وتتشابك، تبقى الفسيفساء المغربية شهادة حية على عبقرية الإنسان المغربي، وعلى قدرة الفن التشكيلي أن يكون جسراً بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والابتكار.