بقلم: آية الحمري
في أحد أركان متحف اللوفر الباريسي، تتربع الموناليزا، السيدة ذات الابتسامة الغامضة، منذ أكثر من خمسة قرون. لكن هذه اللوحة لم تُخلَّد لجمالها وحده، بل لما تحمله من رمزية فلسفية وبصرية جعلت منها أكثر عمل فني تم تأويله في التاريخ الحديث، وفق ما تؤكده الموسوعة الرسمية لمتحف اللوفر . فما الذي يجعل من هذه اللوحة المرسومة بين عامي 1503 و1506 أيقونة تحتفظ بكل هذا السحر، والسر؟
في تحليلنا لهذا المشهد، نجد أن من أبرز الأساليب النقدية والأدبية التي تُستخدم لفهم علاقة الفنان بعمله، ما يُعرف بـ “المونودراما الحوارية”، وهي صيغة فنية متطورة للمونودراما التقليدية التي تعتمد على أداء فردي. إلا أن هذا النوع من المونودراما يعطي صوتًا لما هو صامت ؛ لوحة، تمثال، أو حتى فكرة ، الذي يتحول إلى طرف في حوار داخلي عميق.
وقد أشارت موسوعة بريتانيكا إلى أن هذا الشكل الأدبي/المسرحي، وإن لم يُصنف فنا شائعا، يستخدم على نطاق واسع في التحليل الفني والدرامي، لأنه يسمح بـ”استبطان العلاقة بين الذات والمُجسَّد”.
في زاوية يتقاطع فيها الفن بالتأمل، وبين ضربات فرشاة لم تَخْبُ بعد، نتخيل لحظة مستحيلة: أن يعود ليوناردو دافينتشي من صمته الطويل، ويقف وجها لوجه أمام لوحته الأشهر. في هذا الحوار الافتراضي، لا نتتبع صوت الفنان فحسب، بل نصغي لصوت اللوحة أيضا، التي حملت خمسة قرون من النظرات، والرموز، والاحتمالات. هنا نتحول كمتلقين إلى مؤثثي الفضاء سينوغرافليا عبر وظيفة المخيال.
▪︎ ليوناردو دافينتشي (متأملًا):
كم من العيون مرّت عليكِ يا مونا؟ وكم من العصور جرَت فوق ملامحك ولم تُغيّرك؟
▪︎ الموناليزا:
كثيرون نظروا إلي، لكن قلائل رأوني. أصبحت شاشة يُسقط الناس عليها أسئلتهم، جهلهم، وأحلامهم.
▪︎ دافينتشي:
أردتك صورة لا تتكلم، فصرتِ صوتا يتكلم في صمته.
أنا لم أضع لكِ مجوهرات ولا خلفيات براقة، أردتك خفيفة على الزمن، ثقيلة على الوعي.
▪︎الموناليزا :
ألم تسأل نفسك لماذا أنا هنا، خلف زجاج مضاد للرصاص، أُرمَّق كل يوم كأنني كائن فضائي؟
قالوا إنني زوجة تاجر فلورنسي، لكنني الآن صرت سلعة، ماركة مسجلة، وحتى سخرية على مواقع التواصل الاجتماعي!
▪︎ دافينتشي:
لم أرسمك لتكوني رمزا ثقافيا، بل لأجد فيك شيئا من نفسي. كل ما لم أستطع قوله كإنسان، قلته كفرشاة.
أردت لحظة سكينة، لحظة توازن تام بين الضوء والظل، بين الداخل والخارج، كما شرحتُ لاحقًا في دفاتري التي ذكرها مؤرخو الفن في موسوعة Grove Art Online.
▪︎ الموناليزا:
وهل كنتَ تبحث عن السكينة… أم الخلود؟
▪︎ دافينتشي:
ربما كنت أبحث عن نفسي. وجدتها في عينيك اللتان لا تبوحان، ولا تكذبان.
▪︎ الموناليزا:
إذن نحن لسنا لوحة وفنان… بل قضية وجود وتواجد، وفلسفة التلقي، وسالة الفن.
■ الفن لا يموت
تُعتبر الموناليزا واحدة من أوائل الأعمال الفنية التي تُحاكى اليوم في نظريات علم الجمال، ونقد التلقي، والرمزية البصرية. بعض الباحثين يرون أنها لم تعد مجرد امرأة تدعى ليزا جيرارديني، بل رمزا متحولا باستمرار، يعيد تعريف معناه وفقا للسياق الثقافي الذي يُعرض فيه.
من هنا، يتجلى الغرض من هذا الحوار الافتراضي: ليس التسلية الأدبية، بل مساءلة علاقتنا كمتلقين بالعمل الفني، وصورتنا في مرآة الفن.