مواضيع ذات صلة

حين يتحدث الجدار:الفن التشكيلي في ليفربول بوصفه مرآة اجتماعية

فاتن دعبول ـ ليفربول

في صباح ضبابي من أواخر يوليو، اصطفت الجسور الحديدية في ليفربول كشهود صامتة على مدينة تُمطرُ بألوان لا تُعد ولا تُحصى. هنا، يتجلّى الفن التشكيلي في كل ركن: في القاعات الكبرى، على جدران الشوارع، وحتى في العقول التي تحيل الذكريات إلى لوحات حية. هذه المدينة، التي اشتهرت ببحرها وموسيقاها، تُعيد تعريف هويتها البصرية عبر القِطَع التشكيلية التي تصوغ رؤى الماضي وتحاكي آفاق المستقبل.
في ليفربول، المدينة التي لا تزال أصداء موسيقى “البيتلز” تملأ أزقتها، يتحدث الجدار كما تتحدث الألسن. في كل زاوية، على واجهات الأبنية المهجورة، في ممرات محطات القطار، وحتى داخل المقاهي الصغيرة، تجد لوحات فنية ليست مجرد زخارف، بل رسائل مشحونة بالمشاعر والتجارب.
الفن هنا ليس حكراً على المعارض النخبوية؛ بل هو ينبض بين الناس، يعيش في الشارع، ويتحول إلى وسيلة حوار بين أفراد المجتمع كافة.
كيف يمكن للفن التشكيلي أن يعكس نبض الناس؟ وكيف تفاعل سكان ليفربول مع هذا الفن ليجعلوه تعبيراً عن هويتهم، أحلامهم، وحتى جراحهم؟

الفن التشكيلي.. أداة اجتماعية في ليفربول


ليفربول، باعتبارها مدينة مرّت بتقلبات اقتصادية حادة من الازدهار في زمن الموانئ إلى التراجع في مرحلة ما بعد الصناعة، وجدت في الفن ملاذًا وصوتًا بديلًا. شهدت المدينة تحوّل الفن التشكيلي من كونه تعبيرًا جماليًا إلى أداة اجتماعية تنقل روايات السكان عن التهميش، العنصرية، الطبقية، والهويات المتعددة.
تُعتبر مؤسسة “Tate Liverpool”، واحدة من أبرز المراكز التي عملت على إعادة تعريف الفن كقوة ديمقراطية. في معارضها المتنقلة ومشاريعها المجتمعية، تحوّل التركيز من استعراض الجماليات البصرية إلى منح الجمهور فرصة لرؤية أنفسهم في الأعمال الفنية. أعمال مثل لوحات “كريس أوفيلي” أو جداريات “بانكسي” العابرة, فقد استطاعت أن تزيح الستار عن قضايا مثل الهوية السوداء والاحتجاجات الشعبية، مما جعل من الفن التشكيلي منصة للنقاش المدني.

من المشاهد إلى الشريك

اللافت في علاقة جمهور ليفربول بالفن التشكيلي هو الخروج من النموذج التقليدي للمتلقي الصامت إلى دور الشريك الفاعل. لم تعد المعارض مجرد أماكن للعرض، بل فضاءات حوار. مشاريع مثل “Liverpool Biennial” لم تكتفِ بجلب الفنانين، بل دمجت السكان المحليين في صنع الأعمال، عبر ورشات فنية داخل المدارس، المراكز المجتمعية، وحتى السجون.
هذا التفاعل لم يكن مجرد مجاملة، بل ضرورة اجتماعية. فالفن، بحسب العديد من المنظمين، لا يكتمل دون تفاعل الناس معه، ليس كمستهلكين، بل كمنتجين للمعنى. يقول أحد منظمي المعرض: “نحن لا نعرض الفن فقط، نحن نُعيد صياغة السرد مع الناس، ولهم”.

الفن.. مقاومة ناعمة

في حي “توكسث”، الذي شهد عبر سنوات احتجاجات على التهميش والتمييز، ظهرت جداريات فنية صادمة وجريئة تحاكي قضايا الهجرة والهوية والحقوق المدنية. هذه الجداريات لم تُرسم على الجدران فحسب، بل حُفرت في ذاكرة المكان والناس. الفن هنا تحوّل إلى مقاومة ناعمة، أداة توازي الاحتجاج ولكن عبر الألوان والرموز.
يرى الباحثون في علم الاجتماع أن الفن في السياق الليفربولي ليس مجرد انعكاس لحالة اجتماعية، بل وسيلة لإعادة تشكيلها. إنه ليس مرآة بقدر ما هو مطرقة لإعادة تشكيل الواقع، كما وصفه الفيلسوف فالتر بنيامين.

أثر الفن على الفئات المهمشة


الفن التشكيلي في ليفربول لم يغفل عن دعم الفئات المهمشة، خاصة الشباب واللاجئين والمهاجرين. فظهرت العديد من المبادرات مثل “Open Eye Gallery” و”Bluecoat” عملت على دمج القصص الفردية في المعارض الفنية، حيث عُرضت صور وقصص لشباب من خلفيات متنوعة، ليصبحوا بدورهم صانعي محتوى بصري يعكس تجاربهم مع الاندماج والهوية والانتماء.
في عام 2023، نُظمت فعالية بعنوان “وجوه ليفربول الجديدة”، شارك فيها عشرات المهاجرين بأعمال فنية تجمع بين التصوير، الكولاج، والرسم، ليُعرض بعدها في ساحة عامة وسط المدينة. هذا الدمج بين الفئات المختلفة شكّل مساحة تعبير وشفاء جماعي، وجعل من الفن وسيلة لإعادة كتابة السرد المحلي.

علاقة عضوية متبادلة


ما يميز الفن التشكيلي في ليفربول هو عضويته داخل النسيج الاجتماعي. إنه لا يأتي من فوق ولا يُفرض من الخارج، بل يولد من رحم التجربة اليومية. هذه العلاقة المتبادلة بين الفنان والمجتمع حولت المدينة إلى مساحة فنية مفتوحة، يعيش فيها الفن في الشارع كما في المتاحف.
حتى المؤسسات الأكاديمية في المدينة، مثل جامعة ليفربول وجامعة جون مورز، أصبحت تشجع طلابها على دراسة الفن من منظور اجتماعي، حيث تُدرّس مساقات تدمج بين النقد الفني والسوسيولوجيا. هذا التداخل بين المعرفة والممارسة، بين الفردي والجماعي، عزز من موقع الفن كأداة لتشكيل الوعي المجتمعي وليس فقط تزيين الفضاءات.


الفن مرآة للناس وصدى لصوتهم

في ليفربول، لا يُنظر إلى الفن التشكيلي على أنه رفاهية أو ترف بصري، بل كضرورة اجتماعية وإنسانية. هو المرآة التي يرى فيها الناس أنفسهم، والهامش الذي أصبح مركزًا عبر الألوان، الخطوط، والرموز. في هذه المدينة، يتجاور التاريخ مع الحاضر في لوحة، ويتحوّل الجدار إلى قصيدة، والفرشاة إلى صوت يقول ما عجزت عنه الكلمات. وهكذا، يصبح الفن ليس فقط أداة للعرض، بل وسيلة للعيش والفهم والمقاومة. وكأن ليفربول تعلّمنا أن الفن لا يُرى فقط، بل يُحس ويُعاش.

رؤية تشكيليّة متجددة


الفن التشكيلي في ليفربول هو قصة مدينة تُعيد رسم نفسها بعين المبدع والانخراط الجماعي. من لوحات هيردمان ودانييلز إلى أعمال Sutcliffe وHenri، تمر عبر قاعات Tate وWalker، وتنبثق في جداريات الشوارع والمهرجانات العالمية كـ Biennial، تطمح المدينة اليوم لأن تكون ليست فقط وجهة للفن، بل ورشة تشكيلية حية تستشرف مستقبلًا بصريًا متنوّعًا وشاملاً.
ليفربول تعيد تشكيل هويتها وضميرها عبر الفن التشكيلي، وتبني جسورًا أنيقة بين رموز الأساطير، وألوان الواقع، وتحولات المجتمع الثقافية.