مواضيع ذات صلة

حراس الكتاب، دفاعا عن العلم والمعرفة وتداولهما

أحمد طنيش

بين الأزقّة المزدحمة في بوغوتا، عاصمة كولومبيا، وفي ظلال الفقر والنسيان، كان هناك رجل يُدعى خوسيه ألبرتو غوتيريز، لا يحمل شهادة جامعية ولا منصبًا رفيعًا، بل كان ببساطة سائق شاحنة قمامة. ولكن خلف هذا العمل المتواضع، كان قلبه ينبض بشغف مختلف، شغف بالكتب.

خوسيه ألبرتو غوتيريز،

منذ عام 1997، وبينما كان يجمع النفايات ليلاً، لفت انتباهه أمر غريب: كتب كثيرة تُرمى في القمامة، كما لو أنها فقدت قيمتها. لم يحتمل ذلك. بدأ يجمعها بعناية، يزيل عنها الغبار، ويعيدها إلى الحياة. لم يكن يجمعها لنفسه فقط، بل كان يرى فيها شيئًا أعظم، يرى فيها مفتاحًا للحرية والمعرفة لمَن حُرموا منها.
مع مرور الوقت، امتلأ منزله بالكتب، حتى قرر عام 2000 أن يحوّل طابقه الأرضي إلى مكتبة منزلية سمّاها “قوة الكلمات”. لم يكن الهدف مجرد القراءة، بل إحداث فرق حقيقي في حياة الناس، خاصة أولئك الذين لا يملكون كتابًا واحدًا في بيوتهم.
ومن قلب هذا الحي الشعبي، وُلدت حركة ثقافية هادئة، لكنها قوية. نجح خوسيه، بمساعدة متطوعين ومحبين، في توزيع أكثر من 50,000 كتاب على قرى وأحياء محرومة في كولومبيا، تغطي 235 منطقة لا تعرف معنى المكتبة.
لم تمر قصته بصمت؛ فالعالم انتبه لصوت الكتب الخارج من القمامة. دُعي إلى معارض أدبية في بلدان مثل المكسيك وتشيلي والنمسا، حيث تحدّث عن كيف يمكن لحلم بسيط أن يُغير مجتمعات بأكملها.
رسالته لا تزال تتردد في قلوب كل من سمع عنه: “أحبّوا الكتب… لأنها دائمًا ما تضيء الطريق.” إنها ليست قصة عن رجل أنقذ كتبًا، بل عن رجل جعل الكتب تنقذ العالم من حوله.

من بوغاتا إلى الدار البيضاء، ومن غوتيريز إلى بورا:
يوسف بورة

قرأت هذا الخبر، ومما استفدت منه، أن الحياة خارج الكتب غير ممكنة، لأن الكتاب وثق الحياة وخرج من رحمها وحياته بحياتها، لذا أردت أن أبحث في تراثنا القريب، هل لدينا في المغرب مثل هذه المبادرات، فحضرني، المشروع الثقافي معرض الكتاب المستعمل بالدار البيضاء الذي ظهر واختفى تم قاوم وظهر، هذا المعرض الذي ساهم في عودة للحياة لأكثر من 20 ألف إصدار في الدار البيضاء، المغرب، انتصار للكتاب، وجاء توصيفه بالمستعمل ليس قدحا ولكنه بمعنى الكتاب المجرب والمتداول والذي خرج من المختبرات التمحيصية والتحليلية وساهم في تخريج أجيال من الأساتذة والفعاليات، المعرض الذي أعاد إلى الأدهان أسواق الكتب المستعملة التي كنا نجد فيها الكنوز المعرفية والمراجع والوثائق، لكن للأسف تكاد هذه الفضاءات تنقرض أو قل انقرضت، والباقي أطلال فقط، حسب معلوماتي كانت عدة فضاءات لهذه الكتب في الدار البيضاء بين درب غلف والمدينة القديمة واشطيبة، والسوق الفوقاني بالحي المحمدي، وحي لمعاريف (للإشارة بعض الأطلال مازالت حاضرة في لمعاريف، كما أن بعض الأطلال موزعة هنا وهناك) كما أن بعض الأطلال تصارع الزمن في مدن أخرى مثل مراكش والصويرة إلخ.
الدار البيضاء ليست مدينة أسمنتية واقتصادية كما يروجون لها، هي حقا مدينة مونوبول هي كل هذا وزيادة، هي المدينة التي كانت تضم أسواق كبرى للكتاب المستعمل، بمعنى أن سكانها كانوا يقرؤون، وتضم فضاءات الحبوس لأكبر المكتبات، بتخصصات متنوعة، ومنها “دار الثقافة” الدار الوحيدة التي كانت تطبع الكتب المدرسية ونعتبر أنفسنا خريجين لهذه الدار، لمكانة الكتاب عند المغاربة يجاور فضاء المكتبات في الحبوس مع القصر الملكي كما يتجاور مع فضاءات ومعارض الصناعة التقليدية وسوق الزيتون والقمح وغيره ويتجاور مع المسجدين العريقين اليوسفي والمحمدي، الذي كانت تقرأ فيهما البردة والهمزية وأهم الكتب القادمة من الشرق والغرب، كما كانت تقام فيهما حلقات حول سيرة ابن هشام وبدائع الزهور وغيرها، بمعنى أن البيضاويين يقرؤون ويستمعون ويحتفون بالعلم والمعرفة والكتاب.


في الدورة 13 الأخيرة خلال شهر يوليوز 2025 لهذا المعرض الخاص بالكتاب المستعمل المقترح من فعاليات ثقافية ومكتبية وجامعية، دبج شعار دال “الكتاب المستعمل… ذاكرة تتحدى النسيان”، عرض نحو 20 ألف كتاب مستعمل، بمشاركة حوالي 30 عارضاً من مختلف المدن المغربية، إلى جانب عارض من مصر.
وهنا لزاما أن نحتفي، بالأكاديمي شعيب حليفي، المنتصر لثقافة الهامش، الذي يعتبر أن الأصل آت وأتى مما نسميه الهامش، وعلينا أساسا أن نحتفي كما احتفى حليفي برجل مثل خوسيه ألبرتو غوتيريز ، إنه الرجل البسيط العميق “يوسف بورة” الذي يحتفي بالكتاب المستعمل بل هي مهنته، ويتذكر أسواقاً شهيرةً ارتبطت بالكتاب والثقافة في العالم العربي، مثل “سوق الأزبكية” في القاهرة و”شارع المتنبي” في بغداد، مؤكداً أن هذا المعرض ينتمي إلى التقاليد الثقافية ذاتها، التي تراهن على إحياء الكتاب المستعمل، وربط جسور التواصل مع القرّاء من طنجة إلى الكويرة، في فضاء مفتوح وقريب من الناس، يتنفس المعرفة ويحتفي بالذاكرة.
يوسف بورة، رئيس الجمعية البيضاوية للكتبيين، يصرح في ر سالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة، بل يصرخ ويحدر (جاءت رسالته عقب تهميش الكتبيين المناضلين ليستمر الكتاب القديم والمستعمل، وكان عنوان الرسالةلماذا الإصرار على تغييب الكتبي يا رئيس الحكومة؟ )، لسنا نعرف بالضبط عدد المكتبات بالمغرب أكيد أنها بالآلاف وأغلبها تابع لشركات نشر وتوزيع تحقق أرقام معاملات بملايين الدراهم، لكننا بالمقابل نعرف عدد الكتبيين ( تجار الكتب القديمة والمستعملة ) والذين لا يتجاوز عددهم المائتين موزعين على مختلف مدن المملكة، لكن عددهم القليل هذا لا يتناسب مع الأدوار المهمة والكبيرة التي يلعبونها في الترويج للقراءة والكتاب وفي خدمة الثقافة الوطنية ومساعدة أصحاب الدخل المحدود في الولوج إلى الكتاب وإلى التثقيف الذاتي.
حقيقة لقد سئم الكتبيون من مراسلة مختلف الجهات الحكومية من أجل الانصاف إليهم، وبحث أصواتهم من الشكوى من خلال وسائل الاعلام ولاحياة لمن ينادون، فهل سننتظر حتى ينقرض آخر كتبي لنذبح المراثي لهاته المهنة؟ أم سنحجز لها مكانا في أحد المتاحف، في حين أي دولا أخرى تصر على الاحتفاظ بها حية، بل في قلب الحياة الثقافية والاقتصادية والسياحية؟
لذلك ربما تكون هذه الصرخة الأخيرة التي يطلقها الكتبيون في جميع الاتجاهات لإنقاذ هذه المهنة والعاملين فيها، لأننا بفقدانها سنفقد تراثا ثقافيا وإنسانيا لا يقدر بثمن، وسنفقد الثقافة الوطنية أحد أعرق عناوينها وستنسى الأجيال القادمة معنى أن إحدى أعرق مآذن البلاد اسمها مأذنة الكتبية..
وكما يدرك كل البيضاويين، يـأتي معرض الكتاب المستعمل جوابا وردا رافضا لترحيل المعرض الدولي للنشر والكتاب إلى الرباط حيث أراد أن يجعل من الدار البيضاء فضاءً إسمنتياً فاقداً للروح، لكن هذا المعرض يمنح للدار البيضاء بُعداً رمزياً في إعادة الحياة إلى المدينة والفعل الثقافي فيها. “الكتاب الورقي، في ظل هذه التحديات، يظل فعلاً من أفعال المقاومة، يتحدى النسيان ويُرسّخ الذاكرة”