مواضيع ذات صلة

مهرجان ليفربول، حينما يتكلم الحنين

ليفربول: فاتن دعبول

في أحد أزقة ليفربول، ليس بعيدًا عن أرصفة الميناء القديم الذي كان يومًا نافذة بريطانيا على العالم، تعبر نسمة خفيفة تحمل نكهة غير معتادة. ليست نكهة البحر وحده، بل نكهة الذكريات، الأصوات، اللهجات، ودفء البيوت التي غادرتها الأرواح قسرًا أو اختيارًا. هناك، وفي قلب هذه المدينة الشمالية التي عُرفت دومًا بانفتاحها الثقافي المتنوع، يقام مهرجان ليفربول للفنون والثقافة العربية لعام 2025، تحت عنوان “الحنين”.
لكن هذا “الحنين” ليس مجرد ترنيمة فنية تُطرح على خشبات المسارح أو في لوحات تشكيلية، بل هو في جانب منه محورٌ جامع لتجربة شعورية وفكرية وفنية وفي جانب آخر يحكي همسات دافئة تبوح بآلام الغربة ووجع الوطن .
للحنين هنا أيضا صوت آخر لا يعرفه إلا من خبره بشكل حقيقي، يعيشه العرب المنتشرون في الشتات، محاولين استحضار ملامح الوطن الذي يتغير في كل لحظة، سواء في الواقع أو في المخيلة. المهرجان في هذا السياق لا يقدم عروضًا فنية فقط، بل يقدّم مساحة تأمل جماعية في الأسئلة الوجودية الكبرى التي يطرحها الاغتراب: من نحن؟ وأين صرنا؟ وما الذي نحمله معنا حين نرحل؟ وما الذي يتبقى فينا من الأرض التي غادرناها؟
للوقوف عند تفاصيل هذا المهرجان كان اللقاء مع مؤسسه طاهر قاسم الذي تحدث عن دور المهرجان في التعبير عن أهمية الثقافة العربية و أصالتها وقدرتها على التفاعل مع الثقافات الأخرى، لأنها تحمل في مضمونها عمقا تاريخيا يعود الى آلاف السنين. ويقول: إن مهرجان ليفربول للفنون و الثقافة العربية هو واحد من أطول المهرجانات التي تعكس الثقافة العربية في المملكة المتحدة، وقد أُسس في عام 1998 يهدف إلى الحفاظ على التراث العربي وتقديمه للمجتمع البريطاني، بالإضافة إلى خلق منصّة للفنانين العرب محليًا وعالميًا. وخلال أكثر من عقدين من الزمن، أصبح المهرجان حدثًا بارزًا يجمع الناس من مختلف الأعراق والخلفيات الثقافية، مما يعزز فهم ونشر الثقافة العربية في بلاد الاغتراب.
واصل مهرجان الفنون العربية نموه وتوسعه في كل عام، حيث يقدم عروضًا فنية متنوعة تشمل الموسيقى، والمسرح، والفنون البصرية، والسينما، والأدب. وفي هذا العام” 2025″، كان موضوع المهرجان هو “الحنين”، الذي استشعره المتابعون من خلال مختلف الأنشطة الفنية، والذي ساهم في إحياء الذكريات الجماعية والشخصية عبر الأجيال..
أضاف طاهر قاسم: أن المهرجان ليس مجرد حدث ثقافي، بل هو أداة مهمة لتعزيز التفاهم الثقافي وبناء جسور بين الثقافات المختلفة في المملكة المتحدة. ويظهر المهرجان كيف يمكن للتنوع الثقافي أن يساهم في تحقيق التعايش السلمي والإبداع المشترك بين المجتمعات المختلفة، وهو ما ينسجم تمامًا مع أهدافنا في دعم وتعزيز الثقافة العربية في بريطانيا، سيما وقد لعبت ليفربول دورا كبيرا في نجاح هذا المهرجان، مشيدًا بترحاب المدينة ودعمها المستمر. حيث قال: “شعرنا بحفاوة كبيرة من قبل المدينة التي احتضنت الجالية العربية بمهرجانها بكل فخر.


المدينة التي تتسع لكل الأصوات

يشي تاريخ ليفربول أنه لطالما كانت مدينة التعدد، ومدينة اللجوء القديم والجديد. فقد عرفت موجات مختلفة من الهجرة منذ القرن التاسع عشر، وشكّلت بذلك حاضنة طبيعية للتنوع. ولذلك، حين يتلاقى الفن العربي مع هذه التربة الحاضنة، يحدث التفاعل فورًا. المدينة تنفتح لتُصغي، والجمهور المحلي يندمج بمحبة وتقدير..
في هذه النسخة من المهرجان، بدا جليًا أن ليفربول لم تكن مجرد مضيف تقليدي لفعالية ثقافية، بل تحوّلت إلى شخصية شريكة في العرض بساحاتها ومراكزها الثقافية وحتى المباني التاريخية كل المدينة استضافت فعاليات مهرجان يعكس التراث العربي لا بوصفه “فلكلورًا” بل كهوية حيّة، معاصرة، ومتعددة.
في متابعتنا للمهرجان شاهدنا كيف كانت الطبول اليمنية تجاور العود العراقي، والدبكة الفلسطينية تلتقي مع القصائد النبطية الخليجية، بينما الفنانون العرب قدموا أعمالًا جديدة تحكي علاقتهم بالذاكرة والمنفى..لكن ما يميز هذه الأصوات ليس تعددها فقط، بل قدرتها على الانسجام دون أن تفقد خصوصيتها. هنا تظهر قوة المهرجان في تشكيل لوحة فسيفسائية لا تنفي التناقضات، بل تحتضنها فبعض العروض انطلقت من ألم الفقد، وبعضها من بهجة الاكتشاف، وجميعها تشاركت في هدف واحد: أن تُقال القصة، أيًا كانت، بالعربية، وبالفن الذي حافظ على هويته واصالته..

الفن في مواجهة الاغتراب

في زمن باتت فيه الهوية مسألة تفاوض مستمر، يأتي “الحنين” ليؤكد على أن الفنون ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية. كل عرض، وكل لحن، وكل مشهد بصري قُدّم في المهرجان كان بمثابة مقاومة ناعمة في وجه النسيان، العزلة، والتذويب الثقافي. الفنانون هنا لم يكتفوا باستحضار الماضي، بل أعادوا تشكيله في سياقات معاصرة..فالموسيقي العراقي الذي عزف على العود وسط جمهور أوروبي لم يكن يعرض مهارة تقنية فقط، بل كان يقول: “أنا ما زلت هنا، وذاكرتي ما زالت تنبض”. والمخرجة الفلسطينية التي قدّمت فيلمًا قصيرًا عن جدتها المهجرة لم تكن توثق فقط، بل كانت تؤسس لرواية بديلة عن المنفى لا تقوم على الشفقة، بل على القوة والكرامة. والشاعر السوري الذي ألقى قصيدة باللهجة الدمشقية في قاعة مليئة بالبريطانيين والعرب معًا، كان يزرع بذرة انتماء لغوي وسط تربة جديدة.، وعليه المهرجان بهذا الشكل لا يحتفي بالماضي كوقوف على الأطلال، بل يعيد تعريفه كقوة حية تحفّز الفعل. فـ”الحنين” ليس فقط دمعة على الخد، بل شعلة في القلب تدفع نحو الإبداع، وتُحوّل الألم إلى عمل فني قادر على التأثير، وربما التغيير..

معارض بصرية:

من أبرز الفعاليات التي أثّرت بالجمهور تلك المعارض البصرية التي قدّمت تجارب فنية معاصرة لفنانين عرب من أصول متنوعة. إحدى اللوحات التي أثارت الانتباه حملت عنوان “بيتي حقيبتي” وقدمت مشهدًا لمنزل مفكك داخله جوازات سفر، مفاتيح، صور قديمة، وخرائط ممزقة. كانت اللوحة صامتة، لكنها ناطقة بكل لغات الشتات..
في ركن آخر، عرضت الفنانة الجزائرية-البريطانية سلسلة صور فوتوغرافية لنساء يرتدين الثوب التقليدي ويقفن في شوارع أوروبية حديثة. بين الحداثة والتراث، كانت الصور تطرح سؤالًا بصريًا: من نحن حين نحمل ثقافتنا على أكتافنا في أرض غريبة؟
المعارض لم تكن مجرد وسائط فنية بل وسائل مقاومة صامتة، أدوات لتوثيق ذاكرة تتعرض يوميًا للضياع. الجدران تحوّلت إلى دفاتر يومية، والفرشاة إلى لسانٍ جديد للبوح، واللون إلى لغة لا تحتاج إلى ترجمة..

وحدة الروح:

اللافت في هذه الدورة من المهرجان أن الفنون لم تُفرض عليها “لهجة واحدة”، فكل مشارك تحدث بلهجته لذلك كنا نسمع تارة اللهجة المغربية وتارة اخرى الشامية والخليجية، وأيضا المصرية، وأحيانا تسود اللغة العربية الفصحى والإنجليزية المختلطة، هي جسور بُنيت بين الأفراد.
كانت هناك أمسيات شعرية تقرأ فيها القصائد كما لو كانت اعترافات حميمية. كان هناك مسرح تفاعلي يُقدَّم باللهجة اللبنانية، تُرجم فورًا للإنجليزية على الشاشة خلف الممثلين، دون أن يفقد شيئًا من روحه..
هذا التعدد لم يُضعف الرسالة، بل عززها. لأن العرب، وإن اختلفت لهجاتهم، فإنهم يتشاركون في ذات المخزون الثقافي والشعوري، وهو ما بدا جليًا في تفاعلهم العفوي مع بعضهم، وفي تفاعل الجمهور غير العربي الذي اكتشف للمرة الأولى أن “الحنين” كلمة لا تُترجم، بل تُعاش.

نقل الذاكرة إلى الأجيال الجديدة


جانب آخر لا يقل أهمية عن العروض الفنية كان برنامج الورشات والأنشطة التعليمية التي صممت خصيصًا للأطفال واليافعين العرب في ليفربول. ورشة “أنا أكتب اسمي بالعربية” جمعت عشرات الأطفال الذين خطّوا أسماءهم للمرة الأولى بأحرف عربية على لوحات ملونة. بينما ورشة “قصتي في حقيبتي” شجعتهم على رسم بلادهم أو بيوت أجدادهم كما يتخيلونها.
هذه الفعاليات كانت أكثر من مجرد أنشطة، كانت محاولة واعية للحفاظ على الرابط الثقافي واللغوي للأجيال الجديدة التي تكبر في سياق مختلف تمامًا عن سياق آبائهم وأمهاتهم. الحفاظ على اللغة، هنا، لا يُعد واجبًا فقط، بل فعل حب. والمهرجان في هذا السياق، لم يخاطب فقط الكبار، بل حرص على زراعة البذرة في نفوس الصغار..

الثقافة العربية.. فن يُنتج، وقصص تُروى


في هذا الركن البعيد من بريطانيا، بدا أن ليفربول لم تكن مجرد مدينة تُستضاف فيها فعالية ثقافية، بل تحوّلت إلى أرض جديدة تُعاد فيها كتابة الذاكرة العربية، بلغات الفن المختلفة. لا أحد يدّعي أن الحنين شُفي، أو أن الوطن قد عاد، لكن ما حدث هو أن الأرواح العربية المتفرقة وجدت لحظة جماعية تقول فيها “نحن هنا، وما زلنا نحمل الضوء في أعيننا، والنغمة في قلوبنا”. فحين تُطفأ أنوار المسارح، وتُطوى لوحات المعارض، وتُعاد الآلات الموسيقية إلى صناديقها، يبقى سؤال واحد عالقًا: ماذا بعد “الحنين”؟ هل نكتفي بعيش هذا الشعور مرارًا، أم نحوله إلى قوة دفع نحو بناء مستقبل مشترك؟ المهرجان لا يقدّم أجوبة نهائية، لكنه يفتح الباب للتفكير الجماعي، للحوار، وللتخيل، وربما يكون “الحنين”، كما أراده القائمون على المهرجان، نقطة انطلاق لا نقطة نهاية. بداية لتأسيس سردية عربية جديدة في الشتات، لا تقوم على الفقد فقط، بل على الإبداع، والمشاركة، والتجدد المستمر، فالوطن قد لا يعود كما كان، وربما سيتغير كل شيء. لكن طالما أن هناك فنًا يُنتج، وقصصًا تُروى، وحنينًا يُحتفل به، فإن الثقافة العربية لن تموت بل ستجد دائمًا موطنًا جديدًا، حيثما وُجد الإبداع والذاكرة.