مواضيع ذات صلة

الإعلام الجديد والتنمية الترابية، نحو مقاربة سوسيو-إعلامية للتنمية المجالية المندمجة

أحمد أكليكم ـ صحافي باحث في علم الاجتماع الإعلامي
               دار بوعزة : غرة غشت 2025
مقدمة

‎في خطابه السامي بمناسبة عيد العرش المجيد لسنة 2025، شدد جلالة الملك محمد السادس على ضرورة إحداث نقلة نوعية في مسار التنمية المجالية بالمغرب، داعياً إلى تجاوز المقاربات التقليدية التي أبانت عن محدوديتها، والانتقال إلى رؤية تنموية مندمجة تراعي خصوصيات كل جهة وتستثمر إمكاناتها الذاتية بشكل منصف وفعّال. وقد جاء هذا التوجيه الملكي في سياق الحاجة الملحة إلى إعادة بناء أسس العدالة المجالية والاجتماعية، وتعزيز الحكامة الترابية التشاركية.
‎ولم يتأخر التفاعل العملي مع هذه التوجيهات، حيث ترأس وزير الداخلية، الجمعة فاتح غشت 2025 بمدينة تطوان، اجتماعاً تنسيقياً موسعاً جمع عدداً من الوزراء إلى جانب الولاة و عمال الأقاليم، وذلك في إطار التفكير في آليات تنزيل هذه الرؤية الملكية الجديدة، وإعداد خارطة طريق تنموية ترتكز على التكامل المجالي والعدالة التوزيعية.
‎وفي هذا السياق، يطرح السؤال السوسيو-إعلامي نفسه بإلحاح: لكي ينخرط الإعلام الجديد في ،هذا التفاعل العملي و مواكبته ،كيف يمكن له ، بما يوفره من آليات تفاعلية وشبكات تواصلية مرنة، أن يواكب هذا الانتقال نحو تنمية ترابية مندمجة؟ وكيف يمكن أن يتحول من مجرد ناقل للخطابات التنموية إلى فاعل مشارك في بلورتها، وتيسير شروط نجاحها على أرض الواقع؟
‎هذا ما سأحاول ملامسته في هذا المقال، من خلال تحليل تحولات المشهد الإعلامي، وإبراز رهانات المقاربة

السوسيو-إعلامية في خدمة التنمية المجالية

من الإعلام التقليدي المركزي إلى الإعلام الجديد: انتقال في الوظائف والرهانات
شهد العالم خلال العقدين الأخيرين تحولات بنيوية عميقة بفعل الثورة الرقمية، ما أفرز أنماطاً جديدة في إنتاج وتداول المعلومات، وأدى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الإعلام والمجتمع، لا سيما على مستوى قضايا التنمية. وفي هذا السياق، لم يعد من الممكن الحديث عن التنمية الترابية بمنطق الإعلام التقليدي القائم على المركزية الإخبارية والخطاب الموجه من أعلى إلى أسفل، بل أصبح ضرورياً تبني مقاربة سوسيو-إعلامية جديدة توظف الإمكانيات التفاعلية والمنصات المفتوحة للإعلام الجديد ، و خاصة الجهوي قصد تحقيق تنمية مجالية مندمجة، تشاركية، ومستجيبة لحاجيات السكان.
في النموذج الإعلامي التقليدي، كانت تغطية قضايا التنمية الترابية تُختزل في الترويج للبرامج والمشاريع الكبرى التي تطلقها الدولة أو الفاعلون العموميون، مع ضعف في رصد نبض المجتمع المحلي من خلال إعلام وطنيا و جهويا ، وتهميش للفاعلين المحليين، وغياب للمعلومة القريبة من المواطن. وغالباً ما كان الإعلام يتعاطى مع التنمية من منظور إنجازي – بروتوكولي، يغلب عليه التعميم والتقارير الجاهزة.
لكن مع بروز الإعلام الجديد ،المتمثل في المنصات الرقمية، وشبكات التواصل الاجتماعي، والإعلام المواطن ،تغير المشهد جذرياً، حيث أصبح الفاعل الإعلامي متعدداً، والمعلومة محلية وآنية، والتفاعل بين المواطن والسلطة أكثر دينامية. هذه التحولات فتحت الباب أمام مقاربة إعلامية جديدة تُعيد صياغة العلاقة بين الإعلام والتنمية الترابية على أساس التشاركية والمساءلة والتمكين المجتمعي.


الإعلام الجديد كوسيط للتنمية الترابية المندمجة

يمثل الإعلام الجديد اليوم أداة قوية لدعم التنمية الترابية، شرط تجاوز النظرة التقنية المحضة، والوعي بإمكاناته السوسيو-تواصلية. وفي هذا الإطار، يمكن رصد ثلاث وظائف رئيسية يمكن للإعلام الجديد الاضطلاع بها في إطار مقاربة تنموية مندمجة:
1. التشخيص التفاعلي للمجال:
عبر استخدام الإعلام الجديد، يمكن جمع المعطيات المحلية حول حاجيات الساكنة، عبر استطلاعات الرأي، والمداخلات المباشرة، والتعليقات التي تُعبر عن انتظارات المواطنين من مشاريع التنمية. هذا التفاعل يعزز من واقعية التشخيص ويدعم التخطيط الترابي التشاركي.
2. توسيع دائرة الفاعلين الترابيين:
الإعلام الجديد يمكّن من إدماج فاعلين جدد – كالمجتمع المدني، الشباب، النساء، المقاولين المحليين – في النقاش العمومي حول قضايا المجال. فهو منصة مفتوحة للنقاش وتبادل الرؤى، ما يُضفي طابعاً تشاركياً على صنع القرار الترابي.
3. المساءلة والرقابة المجتمعية:
يتيح الإعلام الجديد آليات للمساءلة والشفافية من خلال فضح مظاهر التهميش، والتأخير في إنجاز المشاريع، والفساد المحلي، مما يخلق ضغطاً إيجابياً على الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين للالتزام بجودة الأداء التنموي.
تحديات توظيف الإعلام الجديد في التنمية الترابية
رغم الإمكانيات الكبيرة التي يتيحها الإعلام الجديد، فإن استثماره في خدمة التنمية المجالية يواجه عدة تحديات، أبرزها:
• ضعف التكوين الإعلامي والتواصلي لدى الفاعلين الترابيين.
• الانتشار الواسع للأخبار الزائفة والمحتويات غير المضبوطة.
• غياب إطار مؤسساتي يؤطر العلاقة بين الإعلام الجديد ومجالات التنمية الترابية. ( هنا ، افتح قوس للعودة إلى النقاش حول المجلس الوطني للصحافة الذي ارى من مهامه القيام بهذا الدور).
• الفجوة الرقمية بين المراكز والمدن الصغرى أو المناطق القروية.
نحو مقاربة سوسيو-إعلامية جديدة
لتحقيق تنمية ترابية مندمجة توظف الإعلام الجديد بشكل فعّال، لا بد من تبني مقاربة سوسيو-إعلامية قوامها:
• الاعتراف بدور الإعلام كفاعل ترابي وليس مجرد ناقل للمعلومة
• إدماج الإعلاميين والفاعلين الرقميين في هيئات التخطيط الترابي
• التكوين المستمر للفاعلين المحليين على آليات الإعلام الجديد والتواصل الرقمي
• إحداث منصات رقمية محلية تشاركية تُعنى بقضايا التنمية.

خاتمة

‎لم يعد من الممكن الحديث عن تنمية ترابية في عصر الإعلام الجديد دون مراجعة الأساليب التقليدية في التواصل والتخطيط والإشراك. فالإعلام، بوصفه مرآة المجتمع ووسيطاً للمشاركة، يتحول اليوم إلى شريك حقيقي في بلورة تنمية مجالية تستجيب للحاجيات الفعلية، وتُبنى على أسس الشفافية، والنجاعة، والمساءلة. ومن هنا، فإن الرهان الأكبر يكمن في بناء منظومة سوسيو-إعلامية مندمجة، تُوظف الإعلام الجديد كرافعة للتنمية ومواكبة التحولات المجتمعية والاقتصادية والبيئية التي تعرفها المجالات الترابية في المغرب.

المراجع :

الزين عبد الهادي، الإعلام الجديد وتحول الوظيفة الاتصالية، المجلة العربية لعلوم الاتصال، العدد 23، 2018
عبد الرحيم العطري – سوسيولوجيا الإعلام الجديد: من الصحافة الورقية إلى الصحافة الرقمية، منشورات أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015
هشام منوار – الإعلام المحلي والتنمية الترابية: نحو إعلام جهوي تنموي، مجلة الباحث الإعلامي، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، 2022